فنتازيا التحولات
" حكاية ليست للأطفال "
د.ماجد الحيدر
" 1 "
" لقد تحولت ببركة من السماء – أو ربما بلعنةٍ منها – الى قارضٍ للورقِ عتيد". رفعت القلم الى شفتي وتأملت الجملة الأخيرة (التي كانت في الحق الجملة الوحيدة) في رسالةٍ لم أكن أعالم لمن أرسلها، وهل سأرسلها بالفعل أم لا.
تمطيت في المقعد الوثير ووضعت القلم على المنضدة المزدحمة. كنت أعرف الآن ما أريد : سيجارة !. غير أني كنت قد انتهيت قبل لحظات من غسل أسناني وآليت على نفسي كما في كل يوم ألا أدخن المزيد – على الأقل في ما تبقى من الليل - من هذه اللفافات التي تشبه رائحتها رائحة الروث. تأملت أرجاء الغرفة الدافئة التي لما يزل هواؤها مختنقاً بالدخان والوحشة، ثم نظرت الى سريري الغارق في الفوضى ؛ تلك الفوضى اللذيذة التي طالما أحببتها وأحطت نفسي بها كلما سنحت لي الفرصة : فتروح ساعات الليل والنهار والقراءة والثرثرة والشراب والنوم وسماع الأخبار تتبادل المواقع في عبثٍ لا يضاهيه سـوى عبث وجودنا في هذا المـكان
النائي ، دون عملٍ حقيقي. وفي آخر الليل ، حين يذهب كل منّا الى غرفته ليبدأ سهرته الفردية الطويلة ، وحين أضجر من الجلوس الطويل الى المنضدة أحمل " عدتي " كلها: علبة السجائر والمنفضة والقلم والكتب والأوراق والمذياع الصغير فأكوّمها على الفراش ، بمحاذاة الجدار الأبيض الرطيب. وبعد وقت قد يطول أو يقصر يدب النعاس الى جفني فأغط في النوم والكتاب على وجهي. ولربما استيقظت فجأة لأذرع الغرفة الطويلة الضيقة جيئة وذهاباً ثم أغرس نفسي ثانية خلف منضدتي مبعثراً كل شيء على وجهها من جديد.
نظرتُ الى الساعة المرمية فوق الكتب ( لم أكن أشدها الى معصمي إلا حين أنزل مدينتي في الأجازات المتباعدة. كان الوقت قد تجاوز الثالثة صباحاً. تذكرت بقرفٍ شديد أن عليّ الاستيقاظ في الثامنة لأمرٍ هام.
- " حسناً " قلت لنفسي " يكفي هذا !"
غير أني لم أغادر مقعدي ، بل دفعته خلفاً وأملته الى الجدار وتمتعت بحالة التوازن القلق. ثم انتابني الملل وتسللت الى صدري هالة الكآبة فنفثتُ حسرةً طويلة أعلم يقيناً ما الذي يعقبها : التبغ بالطبع !
ألقيت أيماني المغلظة الى الجحيم ومددت يدي لألتقط العلبة .. فوقعت عيني على الجريدة للمرة المائة. وللمرة المائة تأملت الصبي
الذي يتوسط رفيقيه وهو ينظر تلك النظرة .. آهٍ كم حيرتني تلك النظرة !
كان الفتى يضم يديه في جيوب معطفه المهلهل الواسع وفي خلفية الصورة ترى أقدام جنودٍ بأحذيةٍ ثقال وقفوا على دكة حجرية واطئة وتحت الصورة كلمات اندثرت ولم يبق منها غير "…. مدينة … الأطفال … جنود الـ … ( صورة بالراديو ) … " !
لست أدري لماذا كان اهتمامي كبيراً بهذه الصورة ، وبهذا الصبي الذي يتوسطها على وجه التحديد. كان في الحق فتى وسيم الطلعة وكانت خصلة من شعره المنسرح تتدلى في عذوبة ويسر. كنت – رغم قدم الصحيفة – قادراً على تبين أنفه الصغير الراشح الذي احمر من البرد وأكاد أسمع لهاثه الدافئ وقد سرع يتظاهر أمام الجنود بأنه ليس سوى عابر سبيلٍ عادي يشق طريقه في هدوء وسلام. كانت يداه تغوصان في الجيبين الواسعين الذين أستطيع تخيلهما وقد قبضتا على حفنتين صغيرتين من الحجارة.
غير أن الشيء القاتل ، الشيء الفاتن الذي يتحداني كلما أبصرت الصورة هو تلك النظرة الغريبة، نظرة التحدي الساخرة التي أحسُّ أنه يخصني بها أنا وحدي. أشعلت السيجارة أخيراً ، وامتصصت نفساً طويلاً أنفذته على مهلٍ وسرحت أفكاري فرحلت نحو الأطفال؛ صـغاري الذين ينامون الساعةَ في أوضاعٍ يبرعون في ابتكـارها وقد ركلوا الأغطية بأقدامهم البيض الصغيرة. أسلمتني غمامة من الحزن الى نعاس أخذ يثقل أجفاني فشابكت ساعديّ على المنضدة وتوسدتهما وأدرت رأسي يساراً فلم أشعر بالارتياح فأدرته يميناً .. فإذا الصورة أمامي من جديد. ترى هل انزلقت من فوق كومة الكتب كي تواجهني ؟
شككت بأن الأمر برمته قد لا يكون مجرد مصادفة ، وإلا فعلام تلاحقني هذه النظرات أنى وليت وجهي ؟ تداخلت الأفكار في رأسي ثم ذابت في أمواج الكرى الذي استسلمت له سريعاً.
" 2 "
لست أدري كيف حدث الأمر. غير أن أول ما واجهت حين فتحت عيني كانت الصورة إياها. وبدأ شيء يشبه المعجزات بالحدوث : لقد دبت الحياة في تلك العيون ورأيت فيهما نظرةً غضبى مستنكرة .
- " لماذا تنظر الي هكذا ؟ " سألني الصبي في نفاد صبر.
- " ها قد بدأت أجن " قلت لنفسي ، ولكن شيئاً دفعني دفعاً الى الإجابة.
- " أنا إذن من ينظر ؟ ألستَ أنت الذي يحاصرني منذ أسبوع ؟ "
- " أنا ؟ "
- " نعم ، أنتَ ! منذ أسبوعٍ وأنا كلما أبصرت الجريدة …. "
- " يا أخي " قاطعني بلهجة متحدية أدركتها على الفور " يا أخي ، كل الناس مروا بالصورة مر الكرام ، وطووا الصحف إلا أنت. ألا تعرف إنك تحسبني هكذا عن الحركة؟ اطوِ الصحيفةَ أرجوك وارمِ بها في هذه الدقيقة كي يتحرر جسدي ونعود الى شغلنا .. هيا ، هيا .. أسرِع!"
لم أكن معتادا ، أنا الآمر الناهي في هذا المكان ، أن أسمع من يأمرني بهذا الشكل فأجبت في حنقٍ :
- " من أنت أيها الصغير حتى تحدثني هكذا ؟ ثم قل لي أي شغل لديك لتعود إليه ؟ أتسمع هذا اللعب شغلاً ؟ "
- " لا تناديني صغيراً ، أسمعت !؟ وهذا الذي تدعوه لعباً أفضل بكثير من اجترار الذكريات وإضاعة الأيام هباءً يا .. يا قارض الورق !؟ "
الحق أني قد صعقت لما سمعت ، غير أني تمالكت نفسي وسألت بألطف لهجة يمكنني اصطناعها ( هل بدأت أخشاه ؟)
-" ماذا تقول ؟ هل قرأت أفكاري يا .. بني ؟ "
-" لست ابنك يا هذا ! ولا أعرف ما قراءة الأفكار. لكني أستطيع بالتأكيد قراءة السطر الوحيد الذي كتبته منذ اسبوعٍ أيها الأديب الفطين ! "
- " ها أنت تسخر. ولكن قل لي بربك متى وكيف عرفت كل ذلك ؟ كيف عرفت أني لم أكتب منذ أسبوع غير هذا .. هذا المدخل ..
لروايتي الجديدة " كنت أكذب بالطبع وكان يدرك ذلك ! فأجابني متهكماً:
- " قرأت هراءك هذا قبل قليل. ألا تعرف أني أستطيع أن أرى وأسمع كل شيء، حتى أحاديثك المكررة المملة مع رفاقك حفظتها عن ظهر قلب. بيد أن يدي مغلولتان والفضل يرجع إليك أيها الفيلسوف الكسول!"
لقد بدأت هذا الصبي العنيد ، فقررت التغاضي عن وقاحته وسألته :
- " ولكنك لم تقل لي ما اسمك "
- " لا عليك ! "
- " إسم لطيف حقا ! ولكن أخبرني أيها السيد "لاعليك" ما الذي كنت ستفعل إذا حررت من أغلالك التي تدعيها ؟ "
- " أتريد حقاً أن تعرف ؟ "
- " نعم ، نعم ، بالتأكيد "
- " حسناً ، تعال معي كي أريك "
- " ماذا ؟ أجيء إليك ؟ ولكنك مجرد صورة في جريدة ! أهذا معقول !؟ "
-" معقول جداً يا أستاذ " ها قد أرضى غروري بعض الشيء ! " إطوِ الصحيفة وضعها لصق صدرك ثم أغمض عينيك وسوف ترى كل شيء "
ومرة أخرى انسقتُ إليه …
- " ألن تخدعني ؟ "
- " لا وشرفك يا أستاذ ! "
" 3 "
كان الظلام دامساً والجو ممتلئاً برائحة لزجة خانقة. وكنت أسمع هديراً مرعباً يصم الآذان. وأحسست بأني أعلو وأهبط بعنف. ومادت الأرض الرخوة من تحت أقدامي. كنت محاصراً بين جدارين من نسيجٍ كالإسفنج. ثم اصطدمتُ بحجرٍ كبير فسقطت على وجهي لكني لم أصب بأذىً لأني الأرض نفسها كانت من ذلك النسيج نفسه. قررت أخيراً لأن أستلقي دون حراك منتظراً مصيري. وقلت في نفسي " لقد خدعني الغلام الشرير " وتمنيت أن يكون الأمر برمته محض كابوس مزعج.
غير أن الضجة هدأت رويداً رويداً. وتوقف الاهتزاز الذي أصابني بالغثيان. وانبثق فجأةً ضوءٌ ساطع وهبط من الأعلى جسم مرعب وأحاطني برفق من خاصرتي ورفعني الى الخارج نحو الهواء الطلق ثم أنزلني بنعومة فوق أرضٍ صلبة. بيد أن الدهشة عقدت لساني حين سمعت صوتاً هادراً يخاطبني :
- " ها ! كيف حالك يا أستاذ ؟ "
خيل إلي أني أعرف هذا الصوت .. آه .. أليس هو صوت الصبي نفسه مكبراً آلاف المرات؟ فركت عيني اللتين أعشاهما الضياء المفاجئ وحدقت أمامي .. وكاد قلبي يقفز من شدة الرعب. لقد كنت أمام الصبي ، بلحمه وشحمه. ولكن أي صبي كان ! لقد كبر وكبر حتى غدا عملاقاً لا أتجاوز في أحسن الأحوال حجم كفٍ من أكفه.
وأدركت أخيراً حقيقة ما حدث : لقد تحولت بتعويذةٍ ما الى قزم من أقزام الحكايات. فاتقدت من الغيض وصرخت بأعلى صوتي :
- " كيف تجرؤ أيها الجاحد اللعين ؟ كيف تفعل بي هذا ؟ تمسخني قزماً لا يساوي قلامة ظفر!"
- " صدقني يا أستاذ " قاطعني وقد وكأن الأمر ليس بتلك الدرجة من الخطورة " لا يد لي في المسألة كلها. لقد حدث هكذا .. بكل بساطة. لم تكد تطو الجريدة حتى دبت الدماء بعروقي ووجدتك في جيبي. ولكن اسمع : ربما كان من الأفضل لك أن تظل قزماً ؛ فالمكان هنا خطير وقد يصبك الأذى إن شاهدك أحد الجنود"
من الواضح أن كرامتي جّرت الى الحضيض. لقد غدوت " شيئاً " ضئيلاً لا حول له ، عصفوراً مبتلاً التقطه الصغار من على قارعة الطريق. وها هو مصيري كله يتوقف على رعاية هذا الولد/العملاق الذي لا أعلم إن كان حقيقة أم محض وهم.
وتذكرت كيف أني امتعضت قبل دقائق معدودات من حديثه معي حديث الند للند. والآن صار لزاماً عليّ أن أقول شيئاً يعيد لي بعضاً من كرامتي المسفوحة. قلت متحدياً :
- " أتخاف علي من هؤلاء الأوغاد ؟ أتظنني أخشاهم ؟ أعدني الى حجمي "الحقيقي" وسأريك ما أفعل بهم "
-" لا داعي لذلك الآن. كما أن الأمر ليس بيدي على أية حال "
-" ليس بيدك ؟ … تقول ليس بيدك ؟ عظيم ! .. رائع ! .. ماذا إذن …… "
-" هش ! الجنود قادمون ! "
وحملني على وجه السرعة ورماني بجيب معطفه. لم يكن الجيب نفسه الذي وجدتني فيه قبل قليل. أدركت ذلك فوراً من الرائحة التي أعرفها جيداً : رائحة التبغ. كان في الجيب ثقبٌ صغير ينفذ الضوء خلاله فحاولت توسيعه ونجحت ، فصار بمقدوري أن أرى وأسمع ما يدور في " الخارج " .
توقف الجنود بأحذيتهم العملاقة وقد بدت فوهات بنادقهم كمثل مدافع هائلة ووجهوا إليه بضع كلمات لم أفهمها ولكن بدا لي واضحاً أنها نوع من الأسئلة أو الشتائم. غمغم الصبي وابتعد بهدوء مفسحاً لهم الطريق حتى ابتعدوا مسافةً كافية استدار صوبهم وصاح: "خذوا يا أبناء الزنى !" ثم رماهم بالحجر الذي كان في جيبه الآخر.
وابتدأت مطاردة قاسية .. وحين "وصلنا" الى مكان آمن ، أخرجني برفق ووضعني في إحدى راحتيه وسألني وهو يلهث :
-" هل أنت على ما يرام ؟ "
كنت في الحقيقة في أسوأ ما يمكن ، غير أني استحييت من أن أعترف بذلك فأجبت في وهن مغالباً نوبة من الغثيان :
-" نعم ، نعم .. أنا على ما يرام. ولكن أرجوك أن تبعد أنفاسك عني. إن لهاثك يكاد يطيح بي !"
ضحك صاحبي وأدار وجهه. ثم مرت برهة من الصمت كافية لكلينا فسألته :
-" منذ متى وأنت على هذه الحال ؟ رمي الأحجار والمطاردات العنيفة وأزيز الرصاص والضرب المبرح .. أليس لديك بيت تأوي إليه ؟ مدرسة ؟ أسرة ؟"
-" دعك من المدرسة ! إنها مغلقة منذ شهرين "
-" والبيت ؟"
-" هو هناك ، في أطراف حي الصفيح "
-" ومتى تأوي إليه ؟"
-" في المساء ، بعد أن أشبع أولئك الأنذال ضرباً "
-" وتشبع أنت من هذه السجائر الرخيصة !"
-"عمّ تتحدث ؟ أية سجائر ؟"
-" لا تحاول الإنكار ، فرائحة جيبك تَشي بك !"
-" جيب المعطف ؟ آه فهمت الآن ! لا بد أن تكون الرائحة من بقايا ما تركه أخي الكبير فيه "
-" وماذا تفعل سجائر أخيك في معطفك ؟ "
- "إنه ليس معطفي ، إنه معطف أبي "
- " يا سلام ! " (نسيت أن هذا العملاق يستطيع لو أراد أن يسحقني بين أصابعه فإذا بي أوبخه. والغريب إنه راح يدافع عن نفسه تماماً مثل أي طفلٍ متهمٍ بالإساءة). " يا سلام ! أخطأ أخوك الكبير فوضع سجائره في جيب معطف أبيك ثم أخطأت أنتَ فارتديت معطف أبيك! يا لها من رواية ! "
- " لا تسخر مني . أنا لا أكذب ؟ كيف أجعلك تفهم ؟ المعطف لوالدي والسجائر لأخي الكبير. (وتهدج صوته وأشاح وجهه وهو يغالب الدموع وأرسل ناظريه الى البعيد ، واسترسل كأنه يكلم نفسه:
- " كنت صغيراً عندما مات أبي. لا أتذكر منه الآن غير ذقنه الشائكة التي كنت أعبث منه وأنا بين ذراعيه وسبحته الكبيرة ذات الفصوص المعطرة. قالت أمي إنه عاد ذات مساء بعد أن غاب عن البيت عدة أيام .. لم يكلم أحداً ولم يقل أين كان . وحين ألحت عليه بالسؤال أخذ يبكي. ثم وجدوه في الصباح التالي ميتاً في سريره. قالت أمي إنه مات من القهر ، لكن أخي الكبير قال إن الجنود قتلوه ، وإنهم سيقتلوننا واحداً واحداً إن سكتنا. وعندما أرادت أمي أن تعطي ملابس أبي وحاجاته الى فقراء الجامع فرفض أخي وصار يرتدي الثياب. أحب أخي ، إنه وسيم وقوي. أحب دائما الاستماع إليه وهو يتحدث مع أصدقائه. صحيح إني لا أفهم كل شيء لكني أعرف إنهم مثلي يكرهون الجنود. أمي ظلت تقول إنها خائفة عليه من المصير الذي لقيه أبي.
قبل أسبوع زرته في السجن وقال لي " كيف كبرت بهذه السرعة دون أن أفطن إليك ؟ أظن أن معطف أبي القديم سيناسبك "
مرت فترة طويلة من الصمت. وساد المدى سكون شامل حتى أني صرت أسمع دقات قلبي. وفجأةً شقت الهواء صيحة عالية ، ثم وقع أقدامٍ راكضة وأصوات إطلاقات نارية. أسرع الصبي بإخفائي في جيبه الذي لم يكن لسوء الحظ ذلك الأيمن المثقوب فلم أستطع رؤية شيء. غير أن الاهتزازات العنيفة والأصوات المدوية جعلتني أجزم أن المطاردة تحولت هذه المرة معركةً حقيقية.
" 4 "
من الواضح إني غبت عن الوعي. ذلك لأني فتحت عيني فرأيت صديقي يراقبني باهتمام وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة عطف حانية.
-" حمداً لله على سلامتك. هل أنت بخير ؟ "
-" آه ، نعم. ولكن عظامي تؤلمني .. ورأسي .. آه .. أشعر أن جبلاً يحط على رأسي ! "
لابد أنه ضحك في سره لفكرة الجبل الذي يحط على رأس كائنٍ بحجمي، لكنه قال باهتمام ومحبة:
-" هوّن عليك. أنت بخير ما دمت معي. لا تحتاج إلا لشيءٍ من الراحة. انتظر ، سأعد لك فراشاً مناسباً"
واستل قماشة كبيرة زرقاء فرشها لي على العشب بجوار أحد الأنهار وأرقدني عليها في لطف وغطاني بطرفها الآخر. واستلقى قربي واضعا وجهه بين راحتيه. أحسست ببعض الارتياح وسألته :
-" قل لي : أين نحن الآن ؟ "
-" نحن في حي الصفيح ، في الحديقة الخلفية للمدرسة "
-" مدرستكم فيها حديقة بهذا الجمال ؟ "
-" نعم " (راح يشرح باهتمام) " لقد كانت فكرة المعلمة سلمى. قالت لنا: يا أولاد. آباؤكم وأجدادكم كانوا فلاحين ، وكانت لهم مزارع وحقول جميلة. يا أولاد ، حياة مدن الصفيح قاحلة وكئيبة ومدرستنا منظرها يقبض الأرواح ، فتعالوا نزرع حديقة ورد وآس وبرتقال في الباحة الخلفية للمدرسة "
_" وزرعتموها .. "
-" وسقيناها .. ونما الزرع وكبر. أتدري ؟ أنا أجيء الى هنا عصر كل يوم لأسقيها وأعتني بها .. " (وأعاد طرف الغطاء الذي رفسته بأقدامي) .. لقد رحلت الست سلمى ، بعد اختفاء أخي بعامين وقبل أن تصلنا الأخبار بأنه سجين. أمي قالت إنهما كانا متفقان على الزواج. لكنها رحلت .. ولم نعد نسمع عنها"
سألته والنعاس يدب الى أجفاني :
-" قل لي يا صديقي : متى أكبر ؟ متى أصير كبيراً مثلك "
-" ستكبر يا صاحبي .. ستكبر حتماً عندما يحين الوقت "
- " أرجوك "
- "ماذا ؟ "
- " إحكِ لي حكاية ! "
- " حسناً ، ولكن تدثر جيداً كي لا يصيبك البرد.
كان يا ما كان .. كان عصفور صغير يعيش فوق شجرة تفاحٍ في بستانٍ يملكه شيخ طيب .. وكان للشيخ ابنة جميلة .. جميلة جداً … "
وغططت في نومٍ عميق. أعذب نومٍ في حياتي. ولأول مرة منذ سنين لم أر الكوابيس .
"5"
عندما استيقظت كانت الشمس تجنح الى المغيب. لاحظت على الفور غياب صديقي فأحسست بالخوف وجلست منتصباً. سقط من فوق صدري منديلٌ أزرق قديم ونظرت حولي فاكتشفت أني كنت نائماً
بجوار ساقيةٍ صغيرة. أما البناء الكالح الكبير الذي كان يطل على الحديقة فقد صار مجرد مبنىً عادي متداعٍ لمدرسة صغيرة .. رباه! ماذا يعني هذا ؟ هل يعني أني قد كبرتُ أخيراً ؟ أية فرحة يا إلهي ! لقد استعدت حجمي !
وقفت على قدمي وأجلت الطرف في الحديقة التي سقيت للتو فخمنت أن رفيقي لم يذهب بعيداً. وحين أردت أن أناديه اكتشفت أني لم أسأله عن أسمه. ترى أين أنت يا صديقي ؟ ولماذا لم تنتظر لترى المعجزة الثانية .. المعجزة الحقيقية : لقد كبرت !
-" خذوا يا أبناء الـ …. !"
إخترق الهواء صوت رفيع. نعم ، إنه صديقي الصغير.
أسرعت بتسلق السور. كانت جولة جديدة قد بدأت. ولمحت الصبي وسط الناس. كان الجنود المدججون يتقدمون ببطءٍ محتمين بعربةٍ مدرعةٍ. قفزت الى الجهة الثانية والتقطت حفنة أحجار وركضت منضماً الى الحشد الغاضب. وتساءلت وأنا أقذفها واحدةً بعد الأخرى من أين واتتني يا ترى كل هذه الجرأة والقوة. إلتفت يميناً فالتقت عينانا وخيل إلي أنه يرمقني بنظرة تشجيع ورضا. إنحنيت لألم أحجاراً أخرى. دوى أزيز الرصاص فتراجع الحشد محتمياً بالمتاريس. تقدم الجنود قليلاً ثم توقفوا. وفجأة إنبثق صديقي كالعقاب وانفجرت زجاجة حارقة أمام العربة، وأزت رصاصات معولات
وخرّ الصبي أرضاً. ودوت من أعماقي صرخة وحشية وخرجت من وراء المتاريس وخرج الناس معي وانهال شلال من الحجارة واللعنات فتراجع الجنود مذعورين. وانتقلت المعركة الطرف القصي من الشارع فعدت الى رفيقي وجثمت عند جسده المدمى وصرخت به أنا أرتعش من الحزن والغضب :
-" لماذا تموت ؟ من سمح لك بأن تموت ؟ من سمح لك ؟ إفتح عينيك وانظر لي .. أنظر : لم أعد قزماً ! كلا ، لم يعد صديقك قزماً .. "
فتح عينيه وابتسم في عذوبة .. أمسك يدي وبسطها ووضع فيها حجراً صغيراً ومال برأسه ..
" 6 "
كان السيجارة قد انطفأت منذ زمن طويل. وكان ألمٌ شديد يكاد يمزق عيني وصدري. وعندما أفقت تماماً رأيت الصحيفة أمامي وكان الصبي ما يزال يرمقني بابتسامة. طويت الصحيفة برفق ووضعتها تحت وسادتي. وإذ وقعت عيني على الورقة ذات الجملة اليتيمة مزقتها مزقاً صغيرة. ارتديت معطفي وخرجت الى العراء. كان الفجر ينبلج. نثرت الجذاذات في الهواء فتلاعب بها النسيم الندي. أحسست بخيط من البرد فدسست يدي في جيبي فأحسست فيه بشيء صلب ، أخرجته فإذا هو حجر صغير بلله العرق الدافئ.
نظرت الى السماء .. الى الغيوم البعيدة وتمتمت :
-" شكراً يا صديقي .. لن أضيع حجارتي .. أعدك بذلك ! "
( 1989 )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق