العالم في عين امرأة : شاعرات عالميات
الحلقة الثانية
ترجمة وتقديم : د. ماجد الحيدر
هذه إضمامة من أزاهير أبدعتها عبقريات عدد من أميرات الشعر الإنكليزي الحديث. ولقد أقدمنا على ترجمة هذه المختارات لما لمسناه من أن القارئ العربي عموما لا يعرف إلا النزر اليسير عما قدمته الشاعرات الإنكليزيات من إسهامات في أنطولوجيا الشعر الإنكليزي بينا هو على إطلاع حسن بمبدعات أخريات في مجال القصة والرواية مثل فرجينيا وولف وبيرل بك ومارغريت ميتشيل وهارييت ستو والأخوات برونتي وغيرهن. ولسنا في هذا التقديم الموجز في معرض تعريف الأدب النسوي أو مزايا وصفات الشعر النسوي بالتحديد لكنا نشير الى أننا سنقف في هذه المختارات على نماذج مختلفة من الأساليب الفنية والتوجهات النفسية أو المواقف الفكرية بدءا من الصوفية وانتهاء بالثائرة المتمردة يجمعها كلها انشغال إنساني عميق وإحساس مرهف بالحياة: بأحزانها وأفراحها، بآمالها وقسوتها، بجمالها ومظالمها، كل ذلك بعين المرأة الذكية المرهفة التي لا تخطئ التفاصيل. بقي أن نحيل الى أن الدارسين يطلقون أحيانا تسمية الأدب الإنكليزي على كل ما يكتب باللغة الإنكليزية بغض النظر عن جنسية الكاتب أو الكاتبة وهو ما يفسر إدراج شاعرتين أمريكيتين ضمن هذه المجموعة.
إليزابيث باريت براوننغ (1806-1861)
شاعرة إنكليزية، ومفكرة سياسية، وناشطة نسوية. ولدت براوننغ في "دورهام" شمالي شرقي إنكلترا وتلقت تعليما خاصا. في عام 1826 نشرت "مقال عن العقل وقصائد أخرى" غفلا من التوقيع. وظهرت عام 1833 ترجمتها لمسرحية "بروميثيوس مقيدا" للكاتب الإغريقي "آيسخولوس" فلاقت استحسانا كبيرا. وبعد خمسة أعوام عبرت في مؤلفها "الملاك الأعظم وقصائد أخرى" عن آرائها المسيحية في قالب من الميثولوجيا الإغريقية. عانت الشاعرة من عجز جسماني طيلة عقد كامل بعد عام 1838 بسبب اعتلال رئوي وضرر في الحبل الشوكي أصابها في طفولتها، لكنها واظبت على الكتابة ونشرت عام 1844 مجموعة شعرية ضمت "صرخة الأطفال" و"غزل الليدي جيرالدين" مع طبعة أمريكية قدم لها "إدغار ألن بو". لاقت هذه الأشعار من الترحيب والاستحسان ما دفع البعض الى ترشيحها شاعرة للبلاط “poet laureate” خلفا لوليام وردزورث عند وفاته سنة 1850.
كان عام 1845 نقطة تحول حاسم في حياتها حين بدأ الشاعر روبرت براوننغ (الذي يصغرها بستة أعوام) يكتب إليها ممتدحا شعرها. وسرعان ما تحول الأمر الى علاقة حب عميق قوبلت برفض شديد من والدها، فأضطر العاشقان الى الهرب الى إيطاليا والاستقرار في فلورنسا حيث استعادت إليزابيث صحتها وأنجبت ابنا وهي في الثالثة والأربعين.
في عام 1850 نشرت مجموعتها "سونيتات برتغالية" وهي قصائد حب أهدتها الى زوجها وكانت قد كتبتها في السر قبل زواجها. يعد النقاد هذه السونيتات ( وهي من أكثر قصائد الحب اشتهارا في الأدب الإنكليزي) أفضل ما كتبت هذه الشاعرة.
عبرت براوننغ في العديد من قصائدها عن تعاطفها مع طموح الإيطاليين الى الوحدة، كما خصصت أطول أعمالها وأكثرها طموحا وهي Aurora Leigh للدفاع عن حق المرأة في الحرية الفكرية والتعبير عن هموم المرأة الأديبة والفنانة ، وقد تعرض النقاد حديثا الى هذا العمل وأعيد تقييمه وحظي بتقدير متجدد.
"1"
آلة موسيقية
بان العظيم [1]
ما الذي كان يفعل
هناك عند النهر ؟
ناشراً من حوله الخراب
موزعا من حوله اللعنات
خائضا في الماء
ناثرا إياه .. بحوافره الماعزية
مبدداً تلكم الزنابق الذهبية
حتى طفت مع اليعاسيب
على صفحة النهر ؟
**
بان العظيم
انتزع ساق قصب من قاع النهر
فاعتكر التيار الرائق
واضطجعت الزنابق ميتة
وفرت اليعاسيب
إذ جرها من الماء
**
بان العظيم
جلس على الجرف العالي
والنهر يجري معتكراً
ومضى يقطع وينجر
كما يجدر بإله عظيم
ويهوي بسكينه الصلبة الباردة
على القصبة الصابرة
حتى اختفت آخر وريقة
تشي بأنها قطعت من النهر للتو
**
بان العظيم
جعل منها قطعة صغيرة
(ولكم كانت طويلة في أحضان النهر !)
وبيدين ثابتتين
أخرج لبها
مثل قلب إنسان
وفي الشيء الأجوف اليابس المسكين
شق الثقوب
إذ هو جالس عند النهر
**
"إنها الطريقة الوحيدة"
ضحك بان العظيم
(ضحك وهو جالس عند النهر)
"إنها الطريقة الوحيدة
منذ أن همت الآلهة
بصنع عذب الموسيقى
كي يفلحوا في ذلك "
وأدنى فمه من إحدى الثقوب
ونفخ في قوة
هناك .. عند النهر
**
جميل جميل جميل !
جمال يخرق الأفئدة
جمال يغشي الأبصار
أوه ، يا بان العظيم !
الشمس على التلال
نسيت أن تخبو
والزنايق عادت للحياة
واليعاسيب عادت
لتحلم عند النهر
**
لكن بان العظيم
نصف بهيمة ونصف إله
إذ يضحك جالسا عند النهر
ليصنع شاعرا من الإنسان
أما الآلهة الخالصة
فتحسرت على الألم والثمن
وعلى القصبة التي
لن تنمو من جديد
مثل قصبة بين القصبات
هناك .. عند النهر !
"2"
إن كان لزاما أن تعشقني
إن كان لزاما أن تعشقني
ليكن ذلك لغير ما شيء
إلا لأجل الحب وحده
لا تقل "أحبها ، أحب ابتساماتها
نظراتها ، حديثها الرقيق
أو سمة في فكرها
لاقت هوى بعقلي
وأدخلت على أيامي
حسا أكيدا من راحة عذبة"
أشياء كهذه يا حبيبي
قد تتغير هي ذاتها
أو تتغير في ناظريك
فيفقد الحب الذي تجمّل بها جمالَه.
ولا تعشقني لأنك تمسح دموعي بعطفك الحبيب
فمخلوق تقلب في نعماك طويلا
قد ينسى البكاء فيخسر حبك !
لكن اعشقني لأجل العشق
كيما يدوم حبك لي .. الى الأبد !
"3"
الحزن
أُنبيكَ بأنّ الحزنَ اليائس حزنٌ لا روحَ بهِ
وبأنْ ما مِن رجلٍ يمضي في منتصف الليلِ الى العرشِ صعودا
في صخبٍ وملاماتٍ وعويلٍ
إلا من يغمره الشكُ لفرطِ اليأسِ
وذاكَ النصفِ العالمِ بالآلام
وبأن فيافي الروح كمثلِ فيافي الأرض تنام
عاريةً ساكنةً تحتَ عيونِ سماوات الله التملؤها بالروع
فيا ذا القلب الغاطس في الأعماق
ألا فلتندبْ موتاك بصمتٍ يشبه صمت الموت
أو كن كتماثيل النصب التذكارية
إذ تجلس في ألمٍ وسهادٍ أبديٍ
حتى تنهار وتكبو نحو الأرض ترابا …
إلمسها وستعرف أن الأجفان الحجرية لم يبللها الدمع ..
ولو كان لها أن تبكي
لانتصبت واقفة ثم ارتحلت !
"4"
حين يقف روحانا
حين يقف روحانا قويين منتصبين
وجها لوجه في صمت
ويقتربان أكثر فأكثر
حتى إن الجناحين المتطاولين
يستحيلان نارا من كلا الجانبين
أي شر يمكن للأرض عندها أن تسلطه علينا
حتى تمنعنا من البقاء هاهنا في رضا واقتناع ؟
فكر معي:
في صعودنا للأعالي فإن الملائكة
لربما زاحمتنا ، ورمت في واحة صمتنا الحبيب العميق
فلكا ذهبيا ما
صنعته أغنية اتصفت بالكمال
فلنبق على الأرض يا حبيبي
حيث تتباعد أمزجة البشر المتضاربة
لتعزل الأرواح النقية
وتفسح ليوم واحد
مكانا يحيطه الظلام والاحتضار
نقف فيه ونتعاطى كؤوس الهوى
"5"
طرق الحب
كيف أحبك ؟
دعني أعد الطرق :
أحبك لآخر ما تبلغ روحي
من عمق وأتساع وارتفاع
حين أشعر أني بمنأى عن الأنظار
حتى نهايات الوجود وتمام النعيم
أحبك حتى منزلة الحاجة اليومية الهادئة
في الشمس أو في ضياء الشموع
أحبك بحرية
كما ينشد الناس العدل
وأحبك بنقاء كما يرتبكون من الإطراء
أحبك بما جاش بي من هوى
في أحزاني القديمة
أحبك بأيمان صباي
وبحب تراءى أني خسرته
في إثر من خسرت من قديسين
أحبك بكل ما في حياتي
من أنفاس وابتسامات ودموع!
ولو قيظ الله لي
سأحبك في موتي بأحسن مما فعلت !
[1] Pan (بان) هو إله الرعاة وقطعان الماشية في الميثولوجيا الإغريقية وهو المسؤول عن خصوبتها. كان له جذع إنسان وذراعاه ولكن برجلي الماعز وأذنيه وقرنيه. يروي "هيرودتس" إن يان ظهر لأحد المحاربين الإغريق عشية معركة الماراثون الشهيرة مع الفرس ووعده بمؤازرتهم وعرفانا بجميله بنى له أهل أثينا مزارا في معبد الأكروبولس الشهير. تعزو اليه الأسطورة اختراع الناي من قصبة استلها من حزمة من القصب كانت في الأصل حورية هاربة من مطاردته الغرامية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق