حكاية من ثلاثة فصول ..بين الواحد والآخر أحقاب من الدهر
(1)
كم مضى عليه من الوقت وهو واقف هنا في هذه البرية الشاسعة .. هذا المدى الأبدي الذي لم يكن يدري ما يفعل فيه ولا ما جاء به إليه ..
كان المطر ينهمر على رأسه الصغير اللامع مثل بيضة نسيتها نعامة في هضبة جرداء . شعر بألم حقيقي في فروة الرأس وكأن قطرات المطر استحالت كراتٍ من فولاذٍ مدبب.
قال مع نفسه : إذا فسد الرأس خرب الكل.. وسحب ياقة بلوزته المطاطية الصفراء حتى غطت رأسه فانكشف ظهره للمطر ..
تذكر آلام ظهره الأبدية فاقشعر جسده من الخوف الذي زاده البرد، فرفع سرواله الى أقصى ما يستطيع فصار مثل مصارع ثيران إسباني ..
المطر ينهمر … ينهمر … ينهمر ..
انكشفت من أسفل الساقين مسافة تقارب الشبر فداهمه برد زاده الخوف فرفع جوربيه المتهدلين الى أقصى ما يستطيع فاتسعت الخروق في عقبيه فتأوه وقال بصوت مسموع : إنما الحمى تأتي من الرجلين.
المطر ينهمر … ينهمر … ينهمر ..
جلس في الوحل .. سحب ساقيه الى صدره .. تكور كالقنفذ ومط أطراف بلوزته الى الأسفل حتى غطى القدمين .. أحس بالبرد يتسلل الى مقعده فمال على جنبه الأيسر فغمر الطين ذلك النصف من جسده واندفع خلال الثقوب ليلامس الجلد المنكمش.
حوّمَ في السماءِ الرماديةِ طيرٌ مدَّ جناحيهِ العريضينِ وأخذَ ينزلقُ بهدوءٍ في الهواء . نظرَ الى الأسفلِ: كانَ الرجلُ يحاولُ في صمتٍ أن يستديرَ الى الجانب الأيمن .. رجلاه المطويتان مشدودتان بقوةٍ الى صدره، وأصابعُ يديه تشابكتا في إحكام فوق قصبتي ساقيه وكان ظهره ورأسه المختفي في البلوزة يشكلان قوساً شديد الانحناء.
كم مضى عليه من قرون وأحقاب وهو في هذه القشرة السميكة من الطين والكلس ..
لم يكن ميتاً بالتأكيد. كان على يقين من ذلك. لكنه بالمقابل لم يكن واثقاً من أنه على قيد الحياة. كانت الفصول تتعاقب عليه. إنه يكاد يشعر بتحولاتها من تلك الدمدمات التي تجيء وتخبو، ومن ذلك التغير الغامض في جلده. لم تعد الحمى تأتي من القدمين. لم تعد كرات الفولاذ تنغرس في صلعته، لقد اختفى القلق، وأصبح الخوف شيئاً من الماضي.
الماضي ؟ وماذا يعني له الماضي؟ أهو نقيض الحاضر؟ ولكن هل من حاضر؟ كان يسلي نفسه بملايين متكررة متعاقبة متداخلة من هذه التساؤلات. لكنه لم يكن معنياًً بالعثور على إجابة لأي منها. وماذا يفعل بالإجابة؟
أحيانا كان يسأل نفسه : هل أنا في حلم؟
وأحياناً يتساءل إن كانت الحياة ماضية هناك .. خارج هذه القشرة الملساء..
وفي أحيان قليلة كان يتوق لمعرفة ما يدور في الخارج، لكن هذا التوق الغامض المفاجئ يختفي، يتلاشى دون أن يترك أثراً.
ومثل فقاعة من غاز تتصاعد رويدا رويدا من قاع مستنقعٍ تغمره الطحالب حتى تتمزق في قرقرةٍ مكتومة، كان يراقب أعماقه في دهشةٍ تخالطها نشوة وحشية حين تتصاعد من أعماقه السحيقة في الزمان والمكان آهٌ غريبة كأنها قادمة من لحظة خلق الكون.
(2)
كانت الأرض والسماء كأنهما كتلة واحدة من البياض الثلجي الناصع. وصمت مريب يخيم على السهل والتل والوادي. وهناك في الأعالي كان سرب من طيور صامتات يفرش أجنحته الشيباء وينزلق في الهواء الساكن.
أخذ الحشد الصغير من الصبية والشيوخ والعجائز الذي تحلق حول الكرة يكبر شيئاً فشيئاً، ونظرات التساؤل والعجب تروح وتجيء بينهم. وتقدم صبي جريء نحو البيضة الهائلة –هكذا ظنها الجميع- وتلمسها في حذر وسحب أصابعه سريعاً، ثم أعادها في جرأةٍ أكبر، ومسدها بجمع يديه، ثم ألصق أذنه بها. ونفر إلى الخلف وقد تملكه الرعب. ودمدم بضع كلماتٍ غريبةٍ رددها بعده الجمع في دهشةٍ وخوف.
وأخذ صوتُ أنينٍ مكتومٍ يصّاعد من داخل القشرةِ السميكة التي ظهر فيها شرخٌ صغير سرعان ما استطال واتسع لتطل منه عينان نصف مغمضتين أعشاهما الضوء المفاجئ. وتخلص الجسد الشمعي المرتجف من قشرته وارتمى على الأرض وهو يتطاوح يمينا وشمالا ثم تكور على نفسه وراح يتأمل ما حوله في عناء. واستباحه النهار المتوحش بل فظاظته وقسوته واجتاحه الم رهيب في الرأس والظهر والقدمين فصرخ من أعماقه ثم أخذ يتلوى ويتمتم ويتفقد أعضاءه. واختض من رأسه حتى أخمص قدميه. وقبل أن يهمد الجسد سمع الجميع بوضوح جملة واحدة ما فهمهما أحد منهم لكنهم حفظوا ألفاظها جيلاً بعد جيل :
-ويلاه .. لم يكن حلماً إذن!
(3)
فصول كثيرةٌ تعاقبت : شتاء ثم شتاء ثم شتاء ثم شتاء....
حط سربٌ من طيورٍ مبتلةٍ نصف عريانةٍ تحت الإفريز الذهبي للمعبد العظيم فأسكرته رائحة البخور وأصوات الموسيقى والصلوات. نظر إلى الأسفل فأبصر في وسط الباحة الرخامية القرمزية نصف قشرةٍ لبيضةٍ هائلةٍ أحاطت به أكوام من زهور داكنةٍ وارتمى في وسطها تماماً تمثال ابنوسي لرجل يلتف على نفسه..
وبين الفينة والأخرى كانت ترنيمة الراهب الكبير تعلو وسط الموسيقى والهمهمات:
-ويلاه .. لم يكن حلماً إذن !
27/5/2005
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق