في القاعة 2102
ماجد الحيدر
كنت صاحياً تماماً ساعة أجروا لي "العملية". الغريب إنني لم أشعر بألمٍ يذكر. لم يكن هناك غير شيء من الغثيان وبعض الخوف الذي اعتدت عليه طوال حياتي.
لقد حضرت الى المبنى باكراً جداً. هذا هو دأبي حين أريد إتمام عملٍ ما في أية مؤسسة رسمية. كنت بالطبع قد أحضرت معي كل الأوراق والوثائق التي تجمعت لدي طيلة شهورٍ من المراجعات هنا وهناك. أخبرني بعض العارفين أن كل شيء سينتهي هنا .. في هذه البناية. بعد ساعات من الصعود والنزول وطرق الأبواب وملء الاستمارات والتوقيعات سلمني أحد "الموظفين" المتجهمين العلبة الحديدية الصغيرة ، وأمرني أن أتوجه فوراً الى "محسن".
-" في أية غرفة رجاءً ؟ "
سألت بوجل فلم يكلف نفسه عناء الرد.
(16)
بعد ربع ساعة بالضبط كنت قد اهتديت الى "محسن". سلمت عليه بأدب جم رغم علمي بأنهم لا يردون التحيات في هذا المكان. استلم الملف الثقيل ورماه دون أن ينظر اليه في أحد الدواليب. أما العلبة فقد أمرني أن أحتفظ بها وأسلمها الى "الجماعة" حين أدخل عليهم.
أمران إثنان حيراني قليلاً حين دخلت القاعة : الأول هو تعرفي على العديد من أفراد "الجماعة" تلك. واحد منهم كان مختار محلتنا والثاني تذكرته حالما رأيته : كان مراقب صفنا ، الثالث "ب" في متوسطتي القديمة : متوسطة "الحكمة"" القريبة من ساحة السلامة الحالية. لكني حين حاولت أن أبتسم لهم محيياً أنكروني وقطبوا جباههم.
أما الأمر الثاني فهو زيهم الذي بدا لي غريباً نسبةً الى المكان : فقد كانوا جميعاً يرتدون بذلات السفاري ذات القطعتين المصنوعة من قماش محلي أزرق أو أخضر ويضعون على رؤوسهم أغطية رأسٍ غريبة الأشكال.
قلت إني كنت صاحياً ساعة أجروا لي "العملية". أخبرتني السيدة الوحيدة الموجودة في القاعة بصوت معدني رتيب حاولت أن أعثر فيه على بصيص من التعاطف بأن الأمر لا يستحق القلق وبأن "العملية" مؤكدة النجاح ؛ فقد جربوها آلاف المرات مع غيري. بل أنها أخبرتني –وياللغرابة- بأن قد أجروا لي واحدة مثلها في زمن سابق. غير أني لم أستطع التذكر ..
أمروني أن أستلقي على بطني فوق سرير مرتفع تغطيه ملاءات خضرٌ قذره ما يزال الدم الطري اللزج عالقاً بها. غالبت نوبة الغثيان وأذعنت للأمر. أمروني أن أثبت النظر على صورة في الجدار وأردد باستمرار أغنية حفظناها في المدرسة ..
-" لن تشعر بالألم " طمأنوني بين السخرية والنهي ، ثم شرعوا بحلاقة رأسي. بعد قليل أحسست بوخزةٍ
حادة في مؤخرة جمجمتي. ثم بضع طرقات خفيفة وأحسست بسائلٍ كثيفٍ دافئ يتدفق من الفتحة التي أحدثوها .. واصوا النقر .. وبعد قليل دخل شرطي بملابس مدنية عرفته هو الآخر لكني لم أجرؤ على تحيته. وقف قبالتي فلم أعد أستطيع أن أرى غير النصف الأسفل منه. فتح الدفتر الكبير الذي بين يديه وسألني :
-" هل تحمل بطاقة الهوية ؟ "
أجبت بنعم وأومأت برأسي الى جيب سروالي الخلفي. أدخل يده هناك وظل يعبث زمناً طويلاً ثم أخرج لباقة أخيراً. سجل بعض الملاحظات في دفتره وسألني سؤالين أو ثلاث ثم أخبرني أن الصورة التي في البطاقة قديمة وعلي تجديدها في أقرب فرصة وإلا تعرضت للمساءلة القانونية فأجبته :
-" حاضر يا سيدي "
رمى البطاقة على ظهري وخاطب القائمين على رأسي الذين لم يتوقفوا عن العمل :
-" الرقم التسلسلي الجديد للحالة هو 292960 / ب. ع. /57 "
-" ماذا ؟ أعدها ببطء يا إبن الـ .. ! "
(18)
إتخذ وضع الاستعداد وأعاد الرقم بوضوح :
_"292960 / ب. ع. /57. سيدي ! "
ولم ينس قبل أن يستدير ويخرج أن يستل من جيب قميصي المتدلي قلم الحبر الثمين الذي أهدته لي أمي في عيد ميلادي الذي لم أعد أتذكره ، وأخبرني أني لن أعود بحاجة الى مثل هذه الأشياء. ثم ضحك ضحكة لم أعرف مغزاها.
بضع طرقات أخر في الرأس .. ثم أزيز ماكنة تدور بسرعة هائلة داخل الجمجمة فتصطك لها الأسنان. صوت آلة لحام كهربائي ثم رائحة لحمٍ محترق ... وقبل أن أغيب عن الوعي أحسست بتيارٍ من الماء البارد ينهال على رأسي .. " إنهم يغسلون الجرح ".. قلت لنفسي بارتياح.
-" أف .. ها قد انتهينا !" قال واحد منهم.
أدارني على ظهري وفحص وجهي ملياً ثم نظر الى رئيسه الذي دنا مني وبصق في فمي وبين عيني. قال إن هذا سيفيدني كثيراً في المستقبل وضحك فضحك الجميع بنفس الطريقة فاستجبت أنا الآخر بضحكة بلهاء مستسلمة.
-" هيا .. إنهض سريعاً .. لا تتظاهر بالمرض .. هل حفظت الرقم ؟ "
-" نعم سيدي .. 292960 / ب. ع. /57…
رددت دون وعي وأحسست ببردٍ شديد يخترق قلبي .
-" حسناً .. إياك أن تنساه .. هيا اخرج ! ..
محسن .. محسن .. أنت يا محسين .. ترى أين ولى إبن الكلب هذا !؟ هيه يا محسن ..
أدخل المراجع التالي !! "
( 2000 )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق