الثياب تصنع الإنسان [1]
قصة قصيرة بقلم: هنري ديفيرنوا[2]
ترجمة: د. ماجد الحيدر
-"لا أحب هذا! "
تذمر "تانغو" ثانيةً "لن أشعر بالارتياح وأنا أروح وأجيء في هذه الثياب"
-"إخرس والبسها!"
أمر "ميرو" فأذعن "تانغو" كالعادة.
كان ميرو بنصف حجم تانغو، لكنه كان "الأذكى"، فلو كان لتانغو أن يملك ذيلاً لدلاه حتماً بين ساقيه إذا تحدث ميرو.
-"والآن، هل رأيت؟" قال ميرو "ماذا قلت لك؟ يبدو رائعاً. أليس كذلك؟ أنظر: وعندك صافرة أيضا!"
-"لا بأس"
اعترف تانغو وهو يستعرض صورته في المرآة. ثم رفع صدره الضخم ودفع منكبيه العريضين الى الوراء. فما كان من "الحنكليس" (الرجل الخفيف الميال الى الصمت الذي يشارك ميرو في العمل) إلا أن يفتح فمه (وهذا لا يحدث إلا نادراً) ليصيح بإعجاب:
-"يا ولد! أليس وسيماً!"
ولم يكن في ذلك شك. ألقى تانغو نظرة مترفعة. كانت البذلة تناسبه تماماً وكأنها فصلت من أجله عند أفضل خياط في باريس. وبدت عيناه الصغيرتان أكثر إشراقا تحت مقدّمة قبعته الأنيقة، حتى أن شيئاً من الذكاء قد لاح فيهما.
-كف عن تحديقك الأبله بنفسك واغسل هذه التكشيرة الغبية عن وجهك" صاح ميرو في نفاد صبر "ثم اسمع. هذا أمر في غاية السهولة حتى أن أي أحمق يستطيع فعله، لذلك فإنك (ربما) تنجح فيه إذا بذلت قصارى جهدك"
ابتعد تانغو عن المرآة وهو يشعر بالأسف. وتغضنت جبهته العريضة في تعبير مؤلم حاول من خلاله أن يظهر تركيزه العقلي.
_"كل ما عليك فعله هو أن تروح وتجيء في الشارع" قال ميرو "في بطء وهدوء، مثل شرطي حقيقي أثناء المناوبة. عندها لن يرتاب أحد إذا سمعنا ونحن نعمل داخل البيت ما داموا يرونك قربه. واظب على المشي حتى نخرج، ثم تسكع بضع دقائق أخرى كي تغطي انسحابنا. وهذا كل شيء. سوف نعود ونلتقي ها هنا. هل فهمت؟"
-"بالتأكيد" أجاب تانغو وعيناه تزيغان نحو المرآة.
-"انطلق إذن!" صاح ميرو محتداً.
أحس تانغو بشيء من القلق وهو يلج الشارع. أما ميرو وتانغو فقد سارا في حذر وترقب غير أن شيئاً لم يحدث. كان حياً مترفاً، ومن خلال الضياء الخافت للمصباح المظلل المنتصب في زاوية الشارع كان في مقدور تانغو أن يتأمل أناقة منازله الرزينة، المتينة، النظيفة.
كان المنزل الذي ستجري فيه العملية يتوسط صفا من البيوت، أمامه حديقة مسيجة. وكان ميرو والحنكليس قد درساه ملياً: في إحدى جدران الطبق العلوي رقدت خزانة معدنية مثقلة بحمولة وفيرة، إذ يبدو أن أصحاب المنزل لم يكونوا ممن يؤمنون بالمصارف."لكن الظاهر انهم سيؤمنون بها منذ اليوم" كما قال ميرو.
تساءل تانغو كيف تكون الحياة في منزل رائع كهذا، لكن إجهاد الخيال أمر بعيد عن قدرته. لم يكن قد رأى شارعا كهذا من قبل إلا فيما ندر، فقد عاش حياته وعمل في الأحياء الرثة من باريس: ينشل المحفظات أحيانا، ويسرق من معروضات المتاجر أحيانا أخرى، حتى إنه مارس الاستجداء، نعم، لقد كان بارعا في الاستجداء. كان رجال الأعمال الرعاديد يدفعون على الفور عندما تشرف عليهم أكتاف تانغو الهائلة، فينظرون في هلع الى اليدين الضخمتين ثم ينبشون جيوبهم بحثاً عن أية قطع نقدية صغيرة.
سار تانغو متمهلا عبر الرصيف، ثم استدار عند المنعطف وأقفل راجعاً. في منتصف الطريق لمح خيال الرجلين وهما ينسلان من فوق سياج الحديقة ثم يغيبان عن الأنظار: كان ميرو والحنكليس يباشران العمل.
وانخرط تانغو في التفكير بشكله الذي رآه في المرآة. كانت الصورة المؤثرة ما تزال حية في ذهنه، فاندفع يسوي كتفيه ويرفع صدره من جديد. ثم وقف منتصباً وجرب أداء التحية العسكرية، فأحس بنشوة غريبة وضحك مع نفسه، وعاود المسير.
هندما هم بالاستدارة عند المنعطف المقابل وقعت عيناه على ضابط شرطة!
كان منظر مثل هذا كافيا في العادة لدفعه الى الفرار بأقصى ما تستطيع رجلاه. لكنه تسمر في مكانه وأخذ يحدق في رعب. وخيل اليه أن الضابط يتفرس فيه في فضول وهو يزداد قرباً. وتصلب جسده وعرقت يداه. واستطاع بجهد جهيد أن يكبح دافعه الغريزي الى الهزيمة. واختضت اوصاله ثم –حين لم يعد بينه وبين الضابط غير بضعة أقدام- رفع ذراعه المتصلبة وأدى التحية، فردها عليه الضابط دون اكتراث ومضى في سبيله.
وقف تانغو وظل يحدق فيه وهو يبتعد، ورويدا رويدا غمره شعور غريب بالرضا.
-"ياه!" خاطب نفسه "ياه!.. هل رأيت؟ لقد أديت التحية وردها عليّ من فوره..ياه..أليس هذا رائعاً؟!"
ومنحه الأمر شعوراً خارقا بالسعادة حتى أنه أوشك أن يهرول الى الضابط ويؤدي له التحية من جديد.
ودفع كتفيه الى الوراء حتى ازدادتا استقامة، وعاود المسير على طول الرصيف.. منتصباً ممتلئا بالزهو والفخار، وعندما بلغ المنعطف توقف هنيهة وأرجح جسده مستنداً على عقبيه، كما يفعل أي شرطي محترف.
-"أظن أنني بدوت رائعاً في نظره" قال لنفسه "أظن أنه لا يصادف الكثير من رجال الشرطة في مثل روعتي"
بعد بضع جولات أبصر عجوزاً بدا عليها التردد بعد أن همت مرتين بعبور الشارع ثم تراجعت مذعورة في المرتين.
أندفع تانغو نحوها، وانغرس أمامها كالرمح وأدى لها التحية، حتى إنه لم يلحظ الحقيبة السمينة في يدها. ثم قدم لها ذراعه فنظرت اليه وحيته بابتسامة جميلة وقالت:
- "أوه. شكراً أيها الضابط!"
كان الشارع خاليا تماماً من السيارات، لكن تانغو رفع ذراعه الثانية في جلال وكأنه يأمر بإيقاف قطيع من الشاحنات المزمجرة. وعبرا الى الرصيف المقابل في وقار عظيم.. لقد كان حقاً منظراً مؤثراً.
-"شكراً جزيلاً أيها الضابط" قالت السيدة العجوز.
-"أرجوك سيدتي. الأمر لا يستحق الشكر" وتوقف قليلاً ثم أردف "هذا واجبنا كما تعلمين"
وأدى لها التحية مثل فارس نبيل. ووقف مزهواً يراقب شخصها المبتعد. وقبل أن تختفي تماماً رمقته بناظريها وحيته بابتسامةٍ أخيرة، فانتصب بشدة جعلت الثياب تضيق على صدره ثم أدى لها تحية أخرى.
ومضى سائراً في الزقاق وهو يحيي بين الفينة والأخرى. وجاش في صدره شعور لا يوصف. لم يكن في باريس برمتها مثال مهيب قوي لحارس للقانون والنظام مثل تانغو!
وتقدم خارجاً من العتمة شبحٌ مترنح لرجلٍ رث الخلقة يجرجر أقدامه ويلوح بيديه في عداء ويتمتم بنعوتٍ رهيبة غير مفهومة، وحين وقعت عيناه المحمرتان على تانغو عبس وصاح:
-"هيه، أنت أيها الشرطي المقمّل!"
سرت صدمة عميقة في أوصال تانغو فصاح بالرجل:
- "تعال الى هنا، تقدم، تقدم"
-"شرطي سمين جبان!" دمدم السكران "كيس الهواء الكبير المحشور في البذلة. إضرب الرجل الضئيل ودع اللصوص الكبار يمرون. هذا كل ما تجيدون. تضربون الرجل الصغير و ..."
وتصاعد في صدر تانغو خليط من الغضب والهياج، واحمر وجهه من الغيظ.
-"أنا أبصق عليك!" أعلن السكران في احتقار "هاك" ونفذ ما توعد به.
وقرع شيء ما في رأس تانغو. كان وجهه الان ورديا تماماً. وأمسك بالرجل بيد واحدة عملاقة ونفضه في غضب، وبدون أية فكرة واضحة عما ينوي فعله جرجره الى الشارع.
كان الرجل المشدوه قد تملكه الرعب فاستسلم ولم ينبس بكلمة. لكن تانغو أصبح خارجاً عن طوره، وعندما شاهد صاحبيه وهما ينزلقان من فوق سياج الحديقة ويحطان على الرصيف بالقرب منه لم يعد في مزاج يسمح له بالتوقف.
-"أنت أيها الأحمق، ماذا تفعل؟" همس له ميرو في غضب "أتريد أن تخرب العمل كله؟ أتركه أيها المغفل" وصفعه على خده
ودومت في رأس تانغو مشاعر لايمكن وصفها؛ تذكر الملازم وهو يرد على تحيته، وتذكر السيدة العجوز وهي تنظر اليه في إعجاب وامتنان، تذكر صورته الفخمة في المرآة، وتذكر ما قاله السكران.
وتصاعد في داخله غضب هائل. وبينما كان ميرو والحنكليس يحدقان فيه وقد شلهما الخوف وضع الصافرة اللامعة في فمه وأطلق سلسلة من النفخات العالية الطويلة التي تكفي لاستدعاء كل رجال الشرطة في باريس.
-"لصوص، سُرّاق" جأر بأعلى صوته "أنا ألقي القبض عليكما، ألقي القبض عليكما باسم القانون!"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق