نزار الشجاع


نزار الشجاع
حكاية فلكلورية للصغار والكبار
د. ماجد الحيدر
[1]
في زمانٍ بعيد بعيد عاش فلاح اسمه نزار.
كسولا كان نزار ، بليداً لا يجيد عمل شيء، وفوق هذا وذاك .. كان جباناً ! جباناً الى الحد الذي كان يخشى فيه من أن يخطو خطوةً واحدةً بمفرده. لذلك كنت تراه على الدوام متعلقاً بأذيال زوجته، متتبعا إياها أينما حلّتْ ، ولهذا السبب بالذات صار الناس لا يعرفونه إلا بـ… نزار الجبان !
في ليلة من ليالي الصيف الجميلة خرجت زوجته الى فناء الدار لإنجاز بعض الأعمال فتبعها نزار كعادته. وقف على عتبة الباب ، كانت الزوجة مشغولة عنه بعملها ، تطلع نزار الى ما حوله : كان البدر المنير يغمر بضوئه كل الأرجاء ، انتابه إحساس غريب من الزهو والسعادة وأطلق لخياله العنان فأخذ يحدث نفسه بصوت عال :
- هذه ليلتك يا نزار ! لو كنت أطول بإصبعين أو ثلاثة ، أو كانت أكتافك أعرض قليلاً لكنتَ تهاجم الآن قوافل الشاه القادمة من فارس لتسطو عليها وتكدس في بيتك كل غالٍ ونفيس !
صاحت به زوجته :
- صه أيها الثرثار ! رعديدٌ مثلك ويتكلم عن مهاجمة القوافل ! عد الى فراشك فوراً وابقَ هناك !
- هذا هو حالك أيتها المرأة العنيدة ! ها أنتِ الآن تمنعينني من مهاجمة قوافل الشاه وملء الدار بالنفائس واللآلئ ! ألستُ أنا رجل البيت ؟ كيف تجرؤين على مجادلتي ؟!
وعندما شعرت الزوجة أنه آخذ في الثرثرة وأنه لن يهدأ سريعاً هرعت عائدة الى البيت وأقفلت الباب من الداخل وصاحت به ساخرة :
- حسناً أيها البطل الصنديد! امض ! أسطُ على قوافل الشاه إن استطعت ، أيها العجوز ذو القلب الخائر !
فجأة أدرك نزار أنه وحيد في الفناء وأن الباب موصد بوجهه فوقف دون حراك وقلبه يكاد يقفز من فمه من شدة الخوف وبدأ يتوسل :
- دعيني أدخل . أرجوك ، اسمحي لي بالدخول !
لكنها لم تفتح له. توسل نزار وتوسل لكن دون جدوى حتى رضخ أخيراً واقتعد حجراً كبيرا عند أحد الجدران ولبث منتظراً حلول الصباح وهو يرتعد من الخوف.
مر الليل ثقيلاً واقترب الصبح فأحس ببعض الاطمئنان فافترش الأرض ، حزيناً، نادما، بانتظار أن تسمح له الزوجة القاسية بالدخول .. وسرعان ما تسلل النعاس الى أجفانه..
كان الوقت صيفاً كما قلنا .. وها هو الذباب يطن في كل مكان، وتستقر أسراب منه على وجهه وفمه. تكاسل في البداية عن طرد الذباب لكنه لم يعد يطيق تحملاً فلطم جبينه بباطن يمناه وإذا بالكثير منه يهوي ميتاً .. أمر عادي قد يحدث لأي واحد منا، لكن نزار ليس ككل واحد منا بالتأكيد ..
- آها ! (غمغم مسروراً) ضربة موفقة يا بطل ! .. أتساءل كم واحدة منها قد صرعتُ.
وشرع يعد الذباب الساقط على الأرض :
- واحدة .. اثنتان .. ثلاث .. أربع .. خمس .. سبع .. إ .. إ .. وماذا بعد السبع ؟ آه ، عشر ! .. ثلاث عشرة .. آه ، على أية حال لابد أنها ألف على الأقل !
وتأمل قليلاً ثم أضاف :
- يا إلهي . لم أكن أعلم أن بداخلي كل هذه القوة ! إذا كنت قادراً على قتل ألفِ "مخلوق" بضربة واحدة فأنا متأكد من أني قادر على النجاح في بطولاتي المقبلة دون الاعتماد على هذه الزوجة الحمقاء.
لم يضع نزار وقتاً فنهض من فوره ولوح بقبضته أمام باب الدار الذي كانت زوجته تغط فيه نائمة وأطلق سيلاً من كلمات التهديد والوعيد الهامسة وأدار له ظهره وتوجه نحو شيخ القرية وحكيمها الذي كان يهم بالخروج الى الصلاة وجثا على ركبتيه أمامه :
- آه أيها الشيخ الحكيم ، امنحني بركاتك !
- ليباركك الله يا ولدي. ما الأمر ؟
- سأحدثك بكل شيء يا حكيم. لقد بدأ الأمر هكذا ….
وسرد نزار للحكيم حكاية معركته الخارقة ، مضيفاً أن الواجب يحتم عليه أن يهجر زوجته وقريته ويضرب في الأرض بحثاً عن الأمجاد والبطولات، ثم قال أنه لا يمانع لو كتب الحكيم قصة معركته الأولى هذه كي لا يطويها النسيان ولكي تذكرها الأجيال من بعده !
حسناً . لا بد أن حكيم القرية كان يتمتع بروح النكتة ، فأخرج من دولابه خرقة قماش قديمة مصفرّة وخط عليها هذا البيت الشعري الذي خطر على باله ساعتها :
نزار الشجاع الذي لا يخافْ بضربةِ كفٍّ يجندلُ ألفْ
طار نزار من السرور وقبل يد الحكيم وأسرع الى بيته فحمد الله لأن زوجته كانت خارجة للحقل فأخذ من كومة الحطب التي عند التنور عموداً رفيعاً طويلاً ثبت فوقه الخرقة فصارت مثل علمٍ صغير. ثم نزل الى القبو وقلب عاليه سافله حتى عثر على سيفٍ قديم صدئ من زمن جد جد جده .. حسناً ، ها هو السيف وها هي الراية. ماذا بقي بعد ؟ آه . الفرس ! ولكن من أين لك الفرس يا نزار؟ ليس في البيت غير هذا الحمار العجوز، فليرض به إذن ولينطلق على بركة الله !
[2]
قُدُماً سار نزار ، دون أن يدري الى أين .. بعد ساعة أو اثنتين لم يعد يستطيع مغالبة رغبته في إلقاء النظرة الأخيرة على تلك القرية الصغيرة المنسية التي لم يغادرها مذ ولد .. فهاله أنها أصبحت بعيدة يلفها ضباب الوادي الذي شرع بالزوال فانقبض قلبه وتبخرت شجاعته في إثر ذاك الضباب. في حالة مثل هذه يطيب للمرء أن يحدث نفسه بصوتٍ عال ليطرد الرهبة. ولماذا يحدث نفسه والحمار العزيز موجود ؟
- هكذا إذن أيها الحمار. أنا وأنت سنصنع الأعاجيب. سنفتح البلدان ونقبض الأتاوات . ربما أصبحت وزيراً ، ربما أصبحت أميراً ، أو ربما أصبحت خاناً إذا حالفني الحظ. وعندها سينحني الناس حتى الأرض لمشهد عظمتي وسيهتفون عند مقدمي : عاش الخان العظيم ! عاش الخان العظيم ! وسينشدون الأناشيد في أمجادي ويسمون أولادهم باسمي.
العجيب أن الحمار العجوز كان هو الآخر يشعر بالخوف من هذا المكان الغريب الموحش الذي لم يألفه من قبل فرفع عقيرته بالنهيق. وهكذا بين الهتاف والنشيد والنهيق صار الصوت يعلو ويتردد صداه في أرجاء الغابة التي دلفا إليها للتو.
الخوف يولد الخوف ، صار نزار يتخيل أن وحشاً كاسراً أو لصاً متعطشاً للدماء يكمن خلف كل شجرةٍ أو أجمة متأهباً للانقضاض عليه فزاد في صراخه وزاد الحمار في نهيقه ..
ضجة غريبة عجيبة أخافت العصافير ففرت من أعشاشها وأجفلت الأرانب والسناجب فتقافزت هنا وهناك وارتفع معها نقيق الضفادع وصياح الطيور ورفيف أجنحتها في سمفونيةٍ متنافرةٍ مخيفة كفيلة بإدخال الرعب الى قلب كل إنسان.
وهذا ما حدث بالفعل. فبينما كان أحد المزارعين يهم بشق طريقه في الغابة عابراً من الجهة المقابلة وهو يقود حصانه المحمل بكيس من الطحين تناهى الى سمعه الضجيج المخيف الذي يقترب فأخذ يرتعد ويصيح :
- يا ويلتاه ! لصوص ! قطاع طريق ! شياطين !
وأفلت اللجام وأسرع بالاختباء بين الأشجار الكثيفة تاركاً حصانه على قارعة الطريق. وسرعان ما وصل نزار الى ذلك الموقع بالضبط فرأى الحصان الواقف هناك : بسرجه ولجامه وبكيس الطحين الذي يتدلى من فوق ظهره ، فتوقف عن الإنشاد.
- أشكرك يا رب وأحمدك حمداً كثيراً ! ماذا أريد أكثر من ذلك ؟!
نزل عن حماره من فوره. رفع كيس الطحين من ظهر الحصان ووضعه على ظهر الحمار أمسك باللجام بيد وبالراية باليد أخرى واعتدل بمشقة فوق السرج العالي وانطلق مبتعداً عن الغابة المخيفة حتى أنه لم يتكلف عناء توديع حماره العزيز !
أما عابر السبيل المسكين فلم يبرح مخبئه إلا بعد وقت طويل. فرأى حصانه وقد تحول بقدرة قادرٍ الى حمار عجوز يعلك الحبل البالي المتدلي بين فكيه .. أما كيس الطحين فهو في محله لم يتغير! فليول الحصان وكيس الطحين ! يا روح ما بعدك روح ! أسرع المسكين عائداً الى أهله ليخبرهم أن جمعاً غفيراً ليسوا من الإنس ولا من الجان قد اكتسحوا الغابة ومسخوا مخلوقاتها وهم يهتفون بحياة زعيم لهم لم يستطع أن ينظر في وجهه ولكنه يظن أنه سمعهم ينادونه نزارا !
[3]
كم مضى من الوقت على بطلنا الهمام وهو يسير دون هدى وقد أسلم الزمام لـ"حصانه" الجديد ؟ علم ذلك عند الله. ولكننا نعرف أنه وصل أخيراً الى مشارف إحدى القرى الجبلية الوادعة. تناهت إليه أصوات موسيقى عذبة وطبل وزمر فسار نحوها فإذا به بين جمع من القرويين الكرام الطيبين تقاطروا الى وليمة عرس كبيرة.
- سلامٌ عليكم يا شباب !
- سلامٌ عليك أيها الزائر الغريب ! تعال واجلس على الرحب والسعة ! اتخذ مقعد الشرف وكن ضيفنا العزيز.
أجلسوا نزاراً في صدر المجلس وجاءوا بالطعام والشراب الوفير. وبين القصف والضحك والطرب أخذ الحاضرون يتساءلون عمن يكون هذا الزائر الغريب الذي يلتهم كل ما يقدم إليه في إغماضة عين. أومأ الرجل الجالس على يمين نزار برأسه الى الراية العجيبة التي أسندها الضيف الغريب الى ظهره ، وغمز الى جاره ،الذي غمز بدوره الى جاره الآخر وانتقلت الغمزات من مدعو الى آخر حتى وصلت شيخ القرية الجالس على يسار نزار فرفع رأسه وتهجى الحروف التي خطت على الراية المصفرة العجيبة :
- نــ ..نـ نز.. نزار الــ..شجاع الــذ..ي لا .. لا.. يخــ .. خاف .. بضر..باة .. كـ..ف .. يجــ .. يجن.. يجندل ألف !!
همس الشيخ بما قرأ الى الرجل الجالس على يساره في رعب. همس الجار بدوره الى جاره ودارت الهمسات عائدة من حيث جاءت الغمزات.
أصبح الجميع في غاية الانفعال والترقب عندما عرفوا أن ضيفهم الذي حل عليهم بغير دعوة لم يكن غير …. نزار الشجاع الذي لا يخاف !
فجأةً صاح أحد المدعوين :
- آه ، بالطبع ! إنه نزار الشجاع بلحمه وشحمه! يا إلهي ، لكم تغير ! لقد تعرفت عليه بصعوبة !
عندها بدأ العديد من المدعوين بتذكر نزار الشجاع وحكايات مغامراته وبطولاته دون أن يغفلوا عن ذكر معرفتهم القديمة بهم والساعات الجميلة التي قضوها برفقته ! وحين سأل أحد الشبان في شك :
- كيف لرجلٍ عظيمٍ مثله أن يسافر بهذا المظهر البسيط دون أن يرافقه الخدم والمأمورين؟
أجابه أكثر من واحد منهم موبخاً :
- أسكت يا فتى ! وكيف لك أن تفهم هذه الأمور ؟ إنه هكذا على الدوام لا يحب الاحتفاظ بخدم أو مرؤوسين . لقد دأب منذ نعومة أظفاره على القول "ما حاجتي الى الخدم ما دام العالم كله يقف على خدمتي؟ "
- ولماذا يحمل سيفاً عتيقاً صدئاً كهذا ؟
- آه ، هذا هو شأن الأبطال الأشداء. كل امرئ شجاع بما يكفي إذا تقلد أسلحة فتاكة ، لكن نزار الشجاع يقتل الألف والألفين بهذا السيف القديم الصدئ ! ثم أنه سيف آبائه وأجداده ! ألا تفهم؟!
رفع الجميع كؤوسهم وحيوا نزار الشجاع . وقام خطيبهم الخطير فارتجل كلمة مؤثرة بالمناسبة :
- طالما حينبذٍ يا سبع السباع وصلت إلينا شهورات بطولات حضرة أفندم . ونحن كلناه أجمعين بالتمام والكمال نتشرف بأنه مقام جنابكم العالي شرَّف مقامنا الحقير بالحضور وشكراً !
لم يزد نزار عن أن تنهد ولوّح بيده في ضجر. فتبادل الضيوف نظرات ذات معنى ليظهروا أنهم قد فهموا المغزى العميق لهذا التلويح وتلكم التنهيدة. وسرعان ما ارتفعت الزغاريد ودوت الموسيقى وقام المغني وأكد أنه ألف هذه الأغنية منذ سبعة أعوام ونصف وكان ينتظر مقدم نزار الشجاع الى قريته لينشدها في حضرته :
" يا مرحباً يا مرحباً
إنا نحيي قوتك
فداؤك نحن يا نسر الجبال
فداؤك نحن يا صقر البوادي
يا إكليل وردنا
يا ضوء شمسنا
يا قمر الليالي يا سعد الزمان
نزار الشجاع الذي لا يخاف
بضربة كف يجندل ألف
**
يا منصف الضعاف
يا دواء العليل
يا منقذا من الآلام والمحن
يا قاتل الأشرار والأعداء
نزار الشجاع الذي لا يخاف
بضربة كفٍ يجندل ألف
وحين تفرق الضيوف كان صدى النشيد يتردد في القرية الصغيرة وكل القرى المجاورة .. عند ينابيع الماء الثلجية ، في الأسواق والمقاهي والمطابخ والحقول والطرقات :
نزار الشجاع الذي ……
وصارت مآثره حديث الناس وشغلهم الشاغل ، وصفوا خطره الجليل وطلعته البهية وطوله الفارع وطيبة قلبه ورجاحة عقله … وصار الناس يسمون أطفالهم : "نزار"
[4]
نعود الآن الى بطلنا : فبعد أن نجح بشق الأنفس في الإفلات من أهل القرية الذين أبوا عليه مغادرتهم قبل كذا وكذا من الأيام ، واصل نزار مسيره الشاق نحو طريق القوافل الكبير (حيث النفائس واللآلئ التي تنظره بفارغ الصبر). بعد يومين أو ثلاثة وصل الى إحدى المروج الخضر الواسعة ، ولأنه كان متعَباً للغاية فقد ترجل عن جواده وأرخى له الحبل ليرعى العشب الطري وركز رايته في الأرض واستلقى تحتها وغط من فوره في نومٍ عميق.
في تلك اللحظة بالضبط كان سبعة عمالقة أشداء يسكنون قلعة عظيمة فوق التل القريب يسرحون أنظارهم في المرج العظيم الممتد تحت قلعتهم الحصينة فدهشوا للمنظر الغريب :
- من ذاك الإنسي الذي بلغت به الجرأة والقوة حد انتهاك حرمة أرضنا ، بل والنوم فيها؟
وحمل العماليق هراواتهم الضخام ونزلوا ليروا من يكون ذلك المعتدي الوقح. وحين وصلوا أبصروا جواداً يرعى في كسل ، ورجلا رث الثياب يفترش الأرض ويغط في نومٍ عميق تحت راية خط عليها :
نزار الشجاع الذي …..
- آه ! إنه إذن نزار الشجاع بشحمه ولحمه !
صرخوا في نبرةٍ مروَّعة ؛ فقد وصلت الأخبار التي حملها ضيوف حفلة الزفاف السكارى الى أصقاع بعيدة.
تسمّر العماليق في أماكنهم منتظرين أن يصحو نزار من نومه الهنيء. أما صاحبنا فحين فتح عينيه وأبصر العمالقة المنتصبين فوق رأسه بهراواتهم الضخام اعتراه الدوار وكاد أن يموت من الخوف وأخذ يتلفت يمنة ويسرة عله يجد مخبئاً يتواري خلفه فلم يجد غير الخشبة البائسة التي جعلها سارية لعلمه العتيد. لكن العمالقة كان لهم رأي آخر : إذ أنهم حين رأوا نزارا وقد شحب وجهه وصار يرتجف ويرتعد ظنوا أنه يتقد بالغضب عليهم جراء تطفلهم عليه وحسبوا أنه يوشك على الانقضاض عليهم ليضربهم ضربة واحدة من ضرباته المهلكة الشهيرة ، فخروا على ركبهم لائذين :
- آهٍ يا نزار الشجاع الذي لا يعرف الخوف. قد سمعنا عنك الكثير ونحن في الحقيقة والواقع سعداء جداً بل نتشرف بزيارتكم الكريمة. إن قصرنا قائم هناك فوق ذاك الجبل وإن لنا أختاً حسناء تسكن فيه معنا نحن العمالقة السبعة. نرجوك أيها المقدام ، بل نتوسل إليك أن تمضي معنا الى هناك وتحل ضيفاً علينا !
وشيئاً فشيئاً عاد نزار الى صوابه وأدرك ما يدور من حوله. التف العماليق من حوله وساروا في موكب جليل نحو القلعة وهم يتناوبون حمل رايته الشهيرة. وأقاموا له حفلاً باذخا حيث أطرى الجميع شجاعته ورجولته وتواضعه وكرمه و.. و.. و.. فما كان من أختهم الحسناء إلاّ أن تقع في حبه على الفور!
[5]
كان نجم نزار في صعود مستمر ، فهاهم الأخوة الأشداء يطلبون إليه بأنفسهم أن يتزوج أختهم المليحة ، وها هو حفل الزفاف يقترب من موعده.
ولكن ، وآه من لكن !
بعد أيام قلائل ظهر في تلكم النواحي أسد عظيم متوحش أخذ يصول ويجول وينشر الرعب والخراب دون أن يردعه رادع أو يقف في وجهه أحد ، حتى أن العمالقة الأشداء أصابهم الخور وصاروا يتساءلون في وجوم ما العمل ومن سيخلصنا من هذه الآفة الرهيبة ؟
إنه نزار الشجاع بكل تأكيد !!
ومن غيره يجرؤ على مواجهة هذا الوحش الكاسر؟
واتجهت كل الأنظار نحو نزار. لم يكن للناس من أمل على هذه الأرض غيره ..
حين سمع نزار كلمة "أسد" كاد قلبه يتوقف. وحين أضافوا إليها كلمات مثل "متوحش" و"عظيم" اجتاحه خوف هائل فأطلق ساقيه للريح وفي رأسه فكرة واحدة : العودة الى بيته بأسرع ما تستطيع قدماه !
لكن الناس ظنوا أنه هب راكضاً كي يفتك بالأسد العظيم بيديه المجردتين .. أليست ضربة كفه تقتل ألف ؟ أما الخطيبة الحسناء فصاحت به :
- الى أين يا بطلي الجسور ؟ لا تذهب وأنت راجل وأعزل !
جاءوا إليه بالدروع والفؤوس والرماح وسلحوه حتى الأسنان.وأركبوه جوادا انطلق به مبتعداً. لم يكن نزار ليعرف أو ليبالي الى أين يمضي به الجواد ، فكل ما كان يريد هو الابتعاد … الابتعاد فقط !
ولكن سوء الحظ – أو ربما حسن الحظ – جعله يصل الغابة نفسها التي اتخذها الأسد مقراً له. وحين تناهى الى سمعه الزئير المخيف قفز عن جواده وتسلق أحد الأشجار العالية ظنا منه أنه قد يكون أكثر أماناً ، وهناك في الأعالي تشبث بأحد الأغصان وهو أقرب الى الموت منه الى الحياة. ولكي يناكده الحظ أكثر فأكثر خرج الأسد العظيم من عرينه وسار في مهل وخيلاء حتى وصل الى تلك الشجرة بالذات وهناك زأر من جديد ثم جلس متكاسلا وتثاءب فاتحاً شدقيه العريضين. حين رأى نزار تلك الأنياب الطويلة الحادة جمد الدم في عروقه وأظلمت الدنيا أمام ناظريه وخارت قواه فهوى ساقطاً .. تماماً فوق ظهر الأسد !
كان الأمر مفاجأةً كبيرة للوحش، فهبّ قافزاً في هلع وانطلق يجري بكل ما أوتي من سرعة من مكان الى مكان فوق التلال وعبر الوديان ونزار المسكين متشبث بظهره من أجل روحه العزيزة. وعندما رأى الناس المنظر الغريب صاحوا في إعجاب :
- انظروا. لقد روض نزار الأسد ! وها هو يمتطيه كما لو كان حصاناً !
واستل الجميع خناجرهم وسيوفهم ولحقوا بهما وفتكوا بالأسد المتعَب الحيران. وحين استعاد نزار وعيه وأبصر الأسد الصريع واستطاع النطق من جديد كان أول ما قال :
- خسارةٌ أنم قتلتم هذا الحيوان المسالم اللطيف ! لقد كنت أنوي ترويضه وركوبه بدلاً من الحصان !
انتشرت الأخبار في مثل لمح البصر ، ثم … حفلة أخرى ، وقصائد وأغنيات أخر تمجيداً له ولشجاعته الخارقة ! وأصر العمالقة الأشقاء على الإسراع في مصاهرة البطل العظيم ، وقربوا موعد الزفاف أسبوعاً كاملاً.
[6]
غير أن الأمور لم تجر على ما يشتهون ؛ لقد وصلت أنباء تزويج نزار بالشقيقة الحسناء الى أمير عظيم من أمراء إحدى البلدان المجاورة كان يطمع بالزواج منها فغضب غضبةً شديدةً وأعلن الحرب وأرسل جيوشه لغزو بلاد العمالقة السبعة واختطاف العروس بالقوة إن لزم الأمر. هرع العمالقة السبعة نحو نزار وأبلغوه الأخبار السيئة ثم وقفوا أمامه خاشعين وقد أحنوا الرؤوس إجلالاً منتظرين أوامره السديدة. لا يحتاج المرء الى فطنة كبيرة ليخمن ما فعل نزار. فلقد هب من فوره مندفعاً من القلعة وفكرته الوحيدة هي العودة الى قريته بأسرع ما يمكن. وفي هذه المرة أيضاً ظن الجميع أن نزارا خارج لمنازلة الأعداء بيده المجردة فاعترضوا طريقه وتوسلوا إليه أن يسلح نفسه أولاً وأن يسمح لهم بنيل شرف مرافقته والعمل تحت لوائه العظيم. وسرعان ما جيء له بالخيل والسلاح .. وسرعان ما صار تحت إمرته جيش عرمرم شاكي السلاح كل من فيه يحدث نفسه بالبطولات التي سيسطرها في إمرة نزار الشجاع ، تلك التي سيحدث بها أولاده وأحفاده وأحفاد أحفاده.
الأنباء السيئة تصل سريعاً .. وها قد وصلت الأنباء الى المعسكر المقابل فانتابه الخوف والقلق وهو لما ينزل ساحة المعركة بعد! كيف لا وقد عرف الجميع أن نزار الشجاع بشحمه وعظمه هو الذي يقود جيش الأخوة السبعة .. ويا ويل من يقف أمام قبضته التي تجندل ألفاً بضربة واحدة !
حين وصل جيش العمالقة ساحة المعركة اركبوا نزاراً فرساً أدهم نصف مجنون فكان يضرب الأرض باقدامه القوية ويثب عالياً ويعض على اللجام . مشهد يثلج الفؤاد ويهز الخواطر .. من المؤسف ان آلات التصوير لم تكن قد اخترعت بعد وإلا كنت أريتكم صورة البطل والجيش يحف به هازجاً ، جذلاً ، صارخاً :
- عاش نزار الشجاع ! الموت لجيش الملك الغازي !
أما الحصان الهائج فقد خرج عن طوره فعض على اللجام وانطلق من فوره رامحاً نحو خطوط الأعداء.
ظن العمالقة وجنودهم ان نزاراً يهاجم العدو دون انتظار مساعدتهم فهبوا من ورائين مهاجمين وهم يرددون صيحات الابتهاج.
في تلك الثواني القليلة التي سبقت احتدام الجيشين حاول نزار أن يكبح جماح الحصان المتهور أو أن يلوي عنانه ولكن دون طائل فما كان منه إلا أن يمد جذعه ويقبض على غصن شجرة ظهرت أمامه رجاءً منه في أن ينفصل عن السرج ويتعلق بها ويترك الحصان وشأنه . غير أن الحظ لم يشأ في هذه المرة أيضاً أن يتخلى عنه : لقد كانت شجرة يابسة متفسخة الجذور فإذا بها تنقلع من جذورها مثل سنٍ لبني يوشك على السقوط ، فماذا كانت النتيجة ؟
نزار الشجاع يكر على صفوف الأعداء وفي يده شجرة عظيمة !
عندما شاهد جند العدو هذا المنظر المخيف – وهم الذين ضعفت قلوبهم من قبل بسبب شهرة نزار المدوية- استداروا على الأعقاب وفروا صارخين :
- اهربوا .. انجوا بأرواحكم ! نزار الشجاع يهاجمنا وهو يقتلع الأشجار من جذورها في طريقه !!
لا حاجة لنا الى رواية التفاصيل فالنتيجة معروفة : نصر مؤزر آخر وأناشيد أخرى وقصص جديدة عن البطولة والشجاعة والمجد .. وفي أول جمعة تلت ، وبعد الصلاة والسلام كان نزار يعتلي العرش ويضع على رأسه تاج الملك المهزوم .. والعمالقة والتجار والمنشدون والكتبة والصرافون والحكماء والمنجمون كلهم بين يديه : يبايعون ويقسمون ويضعون انفسهم وأرواحهم تحت تصرفه ....
[7]
عجيبة هذه الدنيا ..
نزار الجبان .. آه ، عفوا : نزار الشجاع الذي لا يخاف لم يكتف بأن يكون قاطع طريقٍ أو خاناً بل صار شاهاً عظيماً على بلاد مترامية الأطراف .. ورغم أنه ظل حتى آخر أيامه يخاف من النوم لوحده ، ويسهر الليل برمته إذا تناهى إليه صوت جرذي ضئيل فإن كتب التاريخ ما زالت حافلة بأخبار بطولاته وفتوحاته وما زالت بقايا الأناشيد تتردد فوق سفوح الجبال البعيدة ..
أما أنا وأنتم ونزار فنعرف الحقيقة بالطبع ..
أنظروا إليه : ها هو يضحك فوق أوراق الكتب القديمة الصفراء .. يغمز بعينه لنا ويقول :
- إنه الحظ يا أصدقائي حين يبتسم .. حسناً .. لا تخبروا أحداً .. هل اتفقنا ؟

ليست هناك تعليقات:

بحث هذه المدونة الإلكترونية