الساحر العجوز وخاتمه العجيب-قراءة في مسرحية محي الدين زنكنه



الساحر العجوز وخاتمه العجيب


قراءة في مسرحية محي الدين زنكنه[1]


د. ماجد الحيدر


المكان:


عبر أرضٍ تنبت فيها الحراب والخيل والأفاعي والنخيل والدوالي والمقابر والقصور والأبطال والمجانين والمهرجين والطغاة الذين يذهبون ويجيئون..


الزمان:


في طيات تاريخٍ يعج بالأوهام والخوف والأكاذيب والحكايات والأشعار والضياع والبطولات ..


الحدث:


ساحر ساخر حكيم ... يقودنا في دروبٍ خبرها طويلاً وعرف فيها السراب من اليقين...

إنه يمسك يديك ويدلك على كومةٍ من الأحجار ويقول لك :تلمّس .. هذا شاهدٌ على دمٍ قديمٍ سالَ من ألفِ وألفٍ وألفٍ ولم يجفّ للساعة..

سيشير إلى جبلٍ غارقٍ في الضباب . وسيخبرك أن وراء هذا الجبل أرضا تفيضُ لبناً وعسلاً .. ما بلغها أحدٌ قطّ وما كف الناس يوماً عن الموت في شعابه الوعرة الجرداء..

وحين تعشي ناظريك أضواء قصرٍ هائلِ من ذهبٍ وفضةٍ وياقوت سيقول لك : لا تأبه للضوء الساطع .. إن تحت القصر لينبوعا من ماءٍ آسنٍ ..

في مكانٍ ما في أول الرحلة ستبصر رجلاً في منتصف العمر عليه لباس الملوك. وستسأل الساحر:

-أليس هذا هارون الرشيد؟ وسيومئ الساحر برأسه أن بلى.. إنه هو!

-ولكن من ذاك الصعلوك المتشح بالأسمال الواقف عند دجلة؟

-إنه هارون الرشيد!

-هارون الرشيد نفسه؟!

-نعم!

-وكيف ذلك؟ أيكون كلاهما هاروناً؟

-نعم. وأزيدك: ذلك الأشعث اللاهث في جلدِ قردٍ راقصٍ هو هارون أيضاً. وذاك العاشق الباكي هو هارون. وذلك المتبتل الرافع يده للسماء .. وذاك وذاك وذاك..

-وكيف يجوز هذا يا سيدي؟

تسأله بين الدهشة والإنكار، فيضحك ضحكته الساخرة نصف المكتومة ويجيبك:

-هكذا هو الأمر دائماً يا ولدي..للحقيقة هارونها، وللتاريخ هارونه، وللأسطورة هارونها، وللخاتم هارونه. بل أزيدك أن لكل زمان ومكان هارونه، كما إن لكل زمانٍ ومكانٍ هاملته وماكبثة وحلاّجه ونيرونه ...

-أظنني بدأت أفهم. وهذا ما يجعلني أذهب إلى أن ذلك الغرنوق المتأنق المثقل بالديباج والجواهر والعطر هو جعفر البرمكي لا غيره، وأن ذلك العملاق الأسود العاري الجذع، المتمنطق بالسيف القاطر دماً ما هو إلا مسرور السياف..

-ها قد بدأتَ تفهم !

-كل هذا حسن يا سيدي. ولكن من ذلك البلاّم ذو الأسمال، الذي يفترش شاطئ دجله قدّام الكوخ المتداعي، يبكي ويغني؟ شرابه خمر رخيصةٌ وطعامه خبز يبيس. من يكون يا ترى؟

-لقد خيبت ظني. أحق أنك لم تتعرفه؟ حسناً .. إنه .. إنه أنت!

-أنا؟! ومن أنا حتى تحشرني في مسرحيةٍ واحدةٍ وكل أولئك السادة والأمراء والتجار والقضاة؟ أنا الذي لا يحسبون لي حساباً، أنا الذي لا أجرؤ أن أحلم، أنا..

-يا الله! لقد سمعتك تقول كلامك هذا في المشهد الأول!

-أنا أقول هذا؟

-نعم. لكنك ستقول أشياء أخرى في كل مشهدٍ يتلوه حتى ابلِّغك أخيراً إلى ما أريد منك ولك.


الحكاية:


ستأخذ الحيرة منك كل مأخذ وستصمت طويلاً، غير أنك ستصيح كمن صحا من حلمٍ عجيب:

-ولكن الحكاية يا سيدي. ما الحكاية؟ أهي قصة أخرى من قصص الليالي الألف أم رواية انتزعتها من كتب التاريخ التي أكلتها الرطوبة والعث؟

-لا هذا ولا ذاك. إنها روايتي أنا. وبالأحرى مسرحيتي أنا. فأنا هنا السيد. والخاتم المسحور طوع بناني، أحرك الشخوص متى أشاء وكيفما أشاء. أمسخهم وأعيد تكوينهم، أعريهم وأُلبِسهم، أدفعهم للضحك أو البكاء أو التقافز في جلود القرود. كل هذا لغايةٍ في نفسي.. لأنني أريد أن أقول شيئاً .. شيئاً أظنه الحقيقة التي ضاعت تحت ركام الأكاذيب. فافتح عينيك واحبس أنفاسك وأصغِ.. ها قد بدأت الستارة تعلو..


هكذا كانت البداية:


خليفة يتحرق شوقاً لينال خاتماًَ أسمه الخاتم السفياني.. إنه خاتم ولا كل الخواتم "إنه مارجٌ من نار.. يسلب العقل ويخطف القلب" خاتم من أجله يفرغ خليفة الله بيت مال المسلمين حول التاجر الأموي حتى يكاد يدفن تحت جبل الذهب[2]

أما بيت مال المسلمين فليذهب إلى الجحيم! فلن يُعدم الوزير جعفر بما وهبه الله من مكر وخداع أن يملأه من جديد خلال الأشهر الستة التي يغيبها الخليفة في الحج! المهم هو أن يحصل هارون على الخاتم ليحاول عن طريقه استمالة قلب "نُعم" الحزينة التي غدر بزوجها ذات يوم.

في الجانب الآخر سنرى "سلمان البلاّم" يحط بزورقه المتداعي عند المغيب ويعد محصوله اليومي "خمسون درهماً .. الحمد لله، مكسبنا اليوم وفير" يتقاسمها وصبيّه "فرات" بعد أن يستقطع خمسة دراهم حصةً لبيت المال. سلمان هنا ما زال ذلك المواطن البسيط المخدوع "بيت المال هو بيت مال المسلمين، يظهر أن الخليفة روحي فداه، قد أرهقه بعض الشيء إذ صرف أمواله في مصالح الإسلام ونصرة الحق.."

تساؤلات الصبي "فرات" ابن حبيبته "زينب" الأرملة التي اغتالوا زوجها هي الأخرى تشعل أول جمرات التفكير والتساؤل في رأسه:

خليليَّ ما بال الدجى ليس يبرح وما بال ضوء الصبح لا يتوضح

أضل الصباح المستنير طريقه أم الدهر ليل كله ليس يبرح

في هذه اللحظة بالذات تتفتق مخيلة الساحر عن رجالٍ ثلاثة يقفون على رأس سلمان: إنهم "مسرور" سيّاف الخليفة ومساعداه. ولكن مهلاً! هذا ليس مسرور "الحقيقي" (إن كان ثمة شخص حقيقي في هذه الحكاية). إنه مسرور "الموازي". رجل يخرجه الساحر من بين الجياع الثائرين ليلبس قناع مسرور السياف ويمثل دوره أمام الناس: شرساً، ظالماً، قبيحاً، ليثير غضب الجماهير –ومن بينهم سلمان- ويصل بها إلى الغليان ومن ثم الثورة. وشيئاً فشيئاً سنكتشف أن شبكة كاملة من الثائرين يقودهم أبو الحزم "الوافد من أعماق الأهوار.." قد استغلت غياب الخليفة في الحج وانهماك وزيره في جمع المال لتستولي على قصر التاجر المرواني وتلبس أقنعة هارون وجعفر وزبيدة ومسرور وتمثل أدوارهم بأبشع ما يكون، لكي تكشف للناس زيفهم وخداعهم وبطلان سلطتهم الغاشمة وتدفعهم إلى الثورة.

حين تصل إلى هذا المشهد سوف ترفع صوتك لتحتج على الساحر وتسأله:

-إن كان بمقدور هؤلاء أن يفعلوا كل هذا فلماذا لا يستولون على السلطة جهاراً ويتخلصون من هارون وأعوانه إلى الأبد.

الساحر العجوز سيجيبك في هدوء:

_ربما كانوا سيفعلون هذا لولا أننا في حكاية، ولولا أن للحكاية قصداً ومغزى. ما جدوى حكايتي إذا جعلتها تدور حول انقلاب في البلاط يقوده حفنة من مغامرين يولّي فيه خليفة ويأتي آخر بسيافيه ووزرائه وتجاره. أنا ألعب هذه اللعبة لأري الناس الوجه الآخر من الستارة. ولأني أعرف أن ألف هارون وهارون يفرِّخون ويعششون أمس واليوم وغداً.

-لكن المنطق يقول..

-تباً للمنطق! وما شأن المنطق بحكاية أصنعها أنا .. الساحر الساخر الحاذق!


هارون يغير مهنته:


أو قل يغير جلدته، وهذا ما سيفعله مرات ومرات خلال يومٍ وليلة.

الخليفة الورع يمضه الشوق إلى "نُعم" حتى يكاد يفقده رشده فيخل بنذره أن يحج ماشياً ويترك الحجيج متذرعاً بحدوث أمور خطيرة في عاصمته فيأخذ مسرور وينقلبان عائدين إلى بغداد متخفيين في أسمال الشحاذين. قريباً من بغداد يعثر على راعٍ ساذج ثرثار فيرسله إلى وزيره يستقدمه ويرسل معه الخاتم علامة للوزير. الوزير يمتثل للأمر ويجيء مولاه وقد تنكر هو الآخر، ولا ينسى قبل ذلك أن يسرق الخاتم/ اللعنة من الراعي المسكين الذي يكافئه هارون شر مكافأة على أمانته في إيصال الرسالة[3].

هنا على شاطئ دجله وفي هدأة من الليل يغير هارون جلده مرة أخرى. أو لنقل إنه يتخلص منه كليةً ليظهر لنا كما هو بكل تقلباته:

إنساناً ضعيفاً أمضّه العشق وأسقمه حتى قاده إلى شفير الجنون "قسماً بقبر جدي الشريف الذي ما زال ترابه عالقاً بجبيني، لم تشغلني مسألة من مسائل الدنيا والآخرة مثلما شغلتني "نُعم". أنا .. أنا أعيش عذاباً مزدوجاًَ يغطس تحته الجمل".

وقبل ذلك سفاحاً لا تأخذه رحمه ولا يمسكه عهد:

"عد (يا مسرور) إلى خيمة أبي النصر. واذبحهم جميعاً..هو وزوجته وأولاده..جميعاً .. وحتى الجنين في أحشاء أمه.. إن وقعت عليك عين اقطع الرأس الذي يحملها. ثم افقأ العين التي رأتك.."

ولكن وما أن يخرج مسرور في مهمته المشئومة حتى يسمع "صوت المؤذن فيرفع عباءته. يستعيذ. يبسمل. ثم يصلي". بعد دقائق قليلة سنصغي إلى هارون في مونولوجات طويلة تزيد من تعريه فيكشف عن مأساة الطاغية الميلانخولي:

"آه (يعصر رأسه) تغزوني بعض الأحيان حالات تفتت لي روحي. تزعزع إيماني. أقف خلالها أمام روحي المفتتة"

"صدقني لا أعرف فيما إذا كنت نادماً أم لا... لا أدري ما الندم. لعله من جملة الأحاسيس التي لم أجربها"

"لا أظنني نفساً شريرة. كل ما هنالك إني لا أعرف طبيعة أفعالي..ربما لأن أحداً من الدائرين في حلقتي بمن فيهم أنت، لم يقل لي يوماً من الأيام لفعلٍ فعلته لماذا فعلت هذا.."

"هل أنا مجنون"

"نجوم.. ثمة نجوم تبرق في الدم. تسبح في نهر الدم هذا، تغوص وتطلع. تطلع وتغوص. ها ها ها .. أكنتَ تعلم قبل الليلة أن الدم يلقي على الضوء ألقاً فريداً..سحرا خاصاً"

"قمّطه. قمّط السيفَ مصبوغاً بدمه مثلما تقمط الأم وليدها متسربلاً بدمه"


مسوخ .. مسوخ ... مسوخ:


ولأن الساحر مولع بالمسخ سيدفع هارون وجعفر ومسرور إلى العبور نحو الجانب الآخر من دجلة حيث يتسابقون على شرف المسخ!

فهناك في الضفة الأخرى، حيث أضواء قصر التاجر الأموي، يقعون في قبضة دوريةٍ من الثوار. ويتواجه الطرفان: الثلاثة في أسمال الشحاذين، والثوار في لباس الوزراء والحاكمين وفيهم "زبيدة" زوجة الطاغية، وبين يديهم قردٌ ضخم مشدود إلى حبل قرّادٍ ساخرٍ فظّ. وتنزل المفاجأة كالصاعقة على رأس هارون: فالثائرة التي تقمصت دور "زبيدة" ليست إلا "نُعم" معبودة فؤاده المتمنعة عليه، والقرد الضخم العجيب ليس إلا كبير التجار: التاجر السفياني ممسوخاً!

وعلى شاطئ النهر الخالد تنعقد محاكمة سريعة ترأسها "نُعم/زبيدة" وتحكم على الثلاثي (المتهم بقتل سلمان وسرقة زورقه) بأن واحداً منهم فقط سيبقى على قيد الحياة، وذلك هو من يجيد التحول إلى قردٍ ممسوخ: وتبدأ المؤامرات والمساومات والمشاتمات والتصاغر من أجل الحصول على هذا الشرف! ويكتشف مسرور الطبيعة الحقيقية لسيديه فيرفض المسخ ويتحول إلى صف الثائرين:

"..لا..لن يعود اليّ العقل الذي ركبتموه لي. لن أعود مطيتكم الذلول، وذئبكم المفترس، لرغباتكم الشريرة.." ، "وجدت من يسمّون أنفسهم أسيادي ليسوا أعلى مني. فلماذا أكون أدنى منهم"

لكن وراء هارون وجعفر تاريخاً طويلاً من الغدر والمكر والقدرة على البقاء. وسرعان ما تتحطم الثورة.


هل هي النهاية:


في المشهد الأخير سترى أجساد الثوار مصلوبة معلقة أمام جامع المدينة. وستسمع منادي الخليفة يدور في الأسواق:

"يا عباد الله، يا عباد الله هلموا..هلموا.. ارجموا شياطين الكفر والإلحاد. ارجموا أبالسة الفسق والفساد. ارجموهم تنالوا ثوابهم.. العنوهم تقبل صلواتكم.."

وسيدخل الخليفة والوزير والفضل في كامل أبهتهم.. والتاجر في جبة قاضي القضاة يحيط بهم الحرس.

عندها ستشتعل بالغضب وتحس بالخيبة في أعماقك وستند عنك صرخة بين اليأس والاحتجاج:

-لماذا ؟!

وسيبتسم الساحر في وقار:

- لا تبتئس يا ولدي. هكذا تجري الرياح! لم تكن هذه أول ثورة فاشلة، ولن تكون الأخيرة. وقديماً صلبوا سبارتاكوس ورجمه سادات روما.

-لكنني لم أكن أتوقع هذه الخاتمة لرحلتي معك. لم أكن أتوقع هذه النهاية.

-ومن قال لك إن لحكايتي نهاية؟ ألم تر أنهم لم يستطيعوا الإمساك بأبي الحزم، وأن الشاهد الوحيد على هارون وجعفر وهما في إهاب القرود، أعني مسروراً قد أفلت منهم حتى صاروا يطلبون رأسه بمائة ألف دينار؟ أما إذا لم يقر هذا عينك فهاك انظر إلى الصبي فرات وستراه "يرمق مجلس الخليفة ورهطه بغضب، يقذفه بحفنة حصى.. و .. بصقة.. ثم يسرع خارجاً.. يلتحق.. بالركب.."

ورويداً رويداً سيختفي الساحر .. يذوب في الهواء.. لكنك ستسمع كلماته الأخيرة ممزوجة بضحكته الرائعة :

-ثم إن الخاتم ما زال في يدي.. الخاتم ما زال في يدي.. الخاتم ما ....

وقبل أن يسدل الستار ستشعر بقوة عجيبة تدفعك كي تنحني أرضاً .. وتخطف حفنة من الأحجار .. وترميها على موكب الخليفة .. على موكب هارون .. هارون زمانك.. ووزيره.. وقاضي قضاته .. وكل هارون مضى أو سيأتي ...


آب 2005






[1] الخاتم/ مسرحية، تأليف محي الدين زنكنه، وزارة الثقافة، إقليم كردستان، السليمانية 2004

[2] لكل شيء حساب ها هنا: التاجر الأموي سمسار الخليفة العباسي، وعند الضرورة قاضي قضاته، ولا فرق هنا بين عباسي ومرواني فالأمر يتعلق باصطفاف من نوعٍ آخر!

[3] أبو نصر، الراعي/المهرج الثرثار لا يكمل الحكاية ليقف شاهداً على خاتمة المأساة العبثية كما عند بهاليل شكسبير، لكنه يذبح وكل أهل داره بأمر من هارون على يد مسرور الحائر الخانع لكي يأمن الخليفة شر ثرثرته. ثم يعود مسرور ويشق بطونهم بحثاُ عن الخاتم الضائع الراقد تحت قميص الوزير الأمين!

ليست هناك تعليقات:

بحث هذه المدونة الإلكترونية