الخطـاب الأخير لفـرس النهر الساذج العجـوز
ماجد الحيدر
لأنني ساذج ، لأنني ثخين المخ ، سأسلخ الساعات الأخيرة التي تبقت لي على هذه الأرض في شتمكم ...
تسألوني من أين واتتني الجرأة ؟
عجباً..! لقد نسيت خوفي في مكان ما .. هناك ، في الأحراش الجنوبية ….
أسألكم عن صغيري .. طفلي الحبيب الذي غادر الماء ولم يرجع ، لم قتلتموه ؟ والى أين أخذتم أنثاي .. وإخوتي ..وأصحابي الآخرين ؟
لم يكونوا أشراراً أبداً، ولم يضمروا لكم سوءاً ، وحين كانوا يجتمعون للسمر، كانوا يتحدثون عن قوتكم ورجاحة عقولكم.
لماذا إذن، هناك، قرب تلك الأحراش .. أبدتموهم جميعاً ؟
… …
في قطيعنا الذي باد قبل يوم ويومين ويوم ، كان فرس يافع مستنير. يقرأ دائماً عن البشر وينحاز اليهم. وحين مرّ من أمامنا ذات يوم ناداه شيخنا الرئيس :
- هيه ، أيها الفتى المهذب ! قل لنا لماذا يغرم بنـو البشر بقتل كل من ليس من جنسهم ؟
- يا جدي يا جدي الطيب .. إنهم يفعلون ذلك لأنه .. حسناً ، لأنه أمر ضروري
ولوّح بكتابٍ كان في يده ثم أردف بعد أن اتخذ سيماء الوقار :
- دارون يقول ذلك ! إنه الصراع من أجل البقاء . ولكنكم لا تقرؤون.
كان المسكين يستعيد فقرة أعجبته من أسفاركم الجليلة حين حطمت جمجمته النيّرة رصاصةٌ أطلقتموها.
في ذلك اليوم الرهيب، شيء واحد لم أتمكن من فهمه. حين أخرجت رأسي من الماء خلسةً رأيت اثنين منكم. كانا غاضبين مهتاجين .. ارتفع صياحهما –ذلك يحدث عندنا - خفت وأخفيت رأسي ورفعته ثانية فرأيت كل شيء : المدية المعقوفة اللامعة ورشاش الدم الذي انبثق ، ورفسات القدمين المتلويتين في الطين… نعم رأيت كل شيء ، لكني لم أفهم. آه كم تمنيت حينها أن يكون صديقنا الصغير حيا لأسأله : هل كان ذلك أيضاً " البقاء من أجل الصراع" ؟
… …
وأنا أفتح فمي تدخل فيه العصافير وتلتقط الفتات من بين أسناني. لم أفكر بالطبع أن أطبق على واحدة منها .. فعقلي الصغير كان ينهاني ، غير أني مغرم بالثرثرة معها : أكثر من واحد حكى لي أن السادة هنا وهناك، في كل مكان، يجمعون الحطب. سألتهم : ألكي يرقصوا حول النار ؟ قالوا : لا .. الحطب أكثر من ذلك .. ربما يعدون لحريق عظيم أخير …
الآن وأنا أسمع أصواتكم تقترب، أصرخ فيكم ملء شيخوختي ، ملء سذاجتي وضعفي : أدعو لكم بالفناء السريع ! أن تفنوا.. أن تفنوا جميعاً ! أن تفـ..نـ..وا… !!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق